أسس علم الاجتماع السياسي لدى ماكس فيبر

اقرأ في هذا المقال


تتمحور رؤية فيبر لعلم الاجتماع السياسي حول إشكالية استقلال النظام السياسي للدولة، وتعد كتابات فيبر من الأعمال الأولى لاتجاه فكري يعارض بوضوح وبشكل خاص الفكر الماركسي القائل باستقلالية الدولة، وباعتبار فيبر ليبرالياً متحرراً، فقد دعا في كتاباته إلى الديمقراطية الليبرالية، ودافع عن الحرية الفردية التي رأى أن الأخطار تحدق بها في بيئة الفكر الحداثي، وقد أعلن فيبر في كتاباته معارضته الصريحة لمبادئ الجبرية الاقتصادية في الفكر الماركسي، كما أن فيبر أولى أهمية عظمى لوسائل الإدارة في الدولة المستقلة، واعتبر أن لها نفس الأهمية التي أولاها ماركس لوسائل الإنتاج الرأسمالي.

أسس علم الاجتماع السياسي لدى ماكس فيبر

يرى فيبر أن السلطة تتغلغل في كافة العلاقات الاجتماعية، مما يستدعي عدم اختزال السياسة واقتصارها على مستوى الدولة فقط، إلا أن هذا التعريف يفتقر لدقة التحديد ويعتريه قصور التعميم بقولة، إن السياسة تتضمن أي نمط قيادي مستقل يعبر عن نفسه من خلال فعل ما، سرعان ما تدارك فيبر ذلك فاقتصرت دراسته وتحليلاته على سلطة وسياسة الدولة المستقلة.

حيث رأى أن الدولة هي أقوى مؤسسات المجتمع الحديث لاحتكارها الشرعي للقوة والهيمنة على منظقة ذات حدود جغرافية، ومن ثم فإن السياسة تشمل أيضاً الكفاح أو العمل الدؤوب من أجل المشاركة في السلطة، أو التأثير على أسلوب توزيع السلطة، سواء بين الولايات أو بين الفئات داخل الولاية أو الدولة.

لذا يذهب ديفيد هيلد إلى أن فكرة الهيمنة الجغرافية هي ما يعطي لتنظير فيبر قيمة خاصة، نظراً لمحاولة الدول الحديثة الدخول في علاقات تنافسية فيما بينها، والنأي بنفسها عن التفرقة والتقوقع على سكانها، أي أن علم الاجتماع لدى فيبر ينحو نفس المنحنى العام لعلم الاجتماع، بما في ذلك المذهب الماركسي على الشكل الذي عرضنا له من حيث اتخاذ المجتمعات المنتظمة في دويلات أممية ميداناً للبحث والدراسة.

البيروقراطية وعلم الاجتماع السياسي عند ماكس فيبر

يرى فيبر أن مصدر سلطة الدولة الحداثية في العصر الحديث، ينبغ من تمركز سائل الإدارة في يد حاكم مطلق يصادر ملكية التصرف في وسائل الإدارة، على نفس النهج تقريباً الذي وصفه كارل ماركس في معرض حديثة عن حرمان العمال من التحكم في وسائل الإنتاج، كما لا يتمتع القائمون على الشؤون البيروقراطية في الدولة الحديثة الراشدة بالقدرة على التحكم في توجيه دفة الأمور، إلا في حالات قليلة، طالما أن القواعد والاجراءات تسير بطريقة روتينية وفق ما رسم لها باستقلالية من قبل، لتحد بذلك من أنشطة وقرارات من يناط بهم شغر الوظائف البيروقراطية.

هذه الطريقة جعلت البيروقراطية تبني لمن يعملون حسب قواعدها سكناً أو بالأحرى قفصاً من هيكل فولاذي لا يسمح ﻷحد بالخروج منه، بل عليه أن يتكيف معه ويعيش داخله ملتزماً بالأنظمة التي رسمت له، ﻷن آثاره لا تقتصر فقط على رؤساء الإدارة، بل وتنسحب على المرؤوسين ومن يتأثرون بتلك الإدارة.

حسب آراء فيبر فإن هذا النمط الحياتي هو الضريبة التي يدفعها من يحيا في مجتمع معقد متقدم، حيث تتبوأ الإدارة البيروقراطية مكانة متميزة بوصفها الأسلوب الرشيد الأوحد ﻹدارة المجتمعات اقتصادياً وسياسياً، خاصة وأن المؤسسات الضالعة في المشاريع الاقتصادية تكون في حاجة مستمرة لعملية التنبؤ المسبق بما سيؤول إليه مسار أنشطتها التجارية والاقتصادية، حتى يتسنى لها إجراء الحسابات الدقيقة المتعلقة بأنشطتها والتي من المفترض أن تضمن الربح لها.

وهذا ما يدفع أصحاب تلك الرؤية الاجتماعية إلى الدفاع عن رؤيتهم وأمنيتهم أن تزول الدولة عندما تنتزع وسائل الإنتاج من أيدي الطبقة الحاكمة، وقد شكل ذلك هاجساً وكابوساً يطارد فيبر ويؤرق مضجعه إذ إن معنى ذلك أن إلغاء الملكية الخاصة سيؤدي إلى ازدياد سلطة الدولة نظراً لعدم وجود قوة أخرى قادرة على تعويض النقص في الأسواق وإحداث التوازن فيه، مما يؤدي إلى ما كان فيبر يتخوف منه، أن تصبح إدارة الاقتصاد في يد البيروقراطيين بالكامل.

البعد المعياري عند ماكس فيبر في علم الاجتماع السياسي

رغم اعتبار فيبر نفسه عالم اجتماع محايد نزيه، إلا أن علم الاجتماع السياسي لديه يأخذ بُعداً معيارياً، بمعنى أنه يحدد ما الذي يجب أن يكون وما الذي لا يجب أن يكون، فهو يهتم بتحليل التمثيل الديمقراطي كما هو واقع فعلاً في المجتمعات الحديثة، وفي نفس الوقت فهو يرى استحالة تحقيق تطبيق مبدأ المشاركة الديمقراطية بصورة مثالية في المجتمعات المعقدة التي تحيا على مساحات شاسعة، إلا أنه من الناحية الأخرى يرى أن الديمقراطية يمكن أن تكون هي المسار الوحيد لكسر شوكة البيروقراطية الحديثة والخروج من سياج القفص الحديدي لها.

من الواضح إذن ضرورة عدم تواكل الصفوة المنوطة بإدارة المجتمعات الحديثة على رأي الأغلبية، لما ينجم عن ذلك من قصور وعدم وضوح الرؤية القادرة على التنبؤ بما ستكون عليه الأمور، نظراً لما يراه فيبر في الأغلبية من غوغائية وجهل، على أن هذا المنحنى لا يجب أن يجعلنا نغفل عن دور الديمقراطية وأهميتها، لما تتمخض عنه الانتخابات من تقديمها لشخصيات قيادية لها جاذبية التأثير على الغير، مما يساعد في تحقيق الأهداف التي ينشدها البيروقراطيون، فمثل هذه الشخصيات القيادية الجاذبة يشكلون الفرصة الحقيقية لتقويض الآليات البيروقراطية.

حتى إن تبنينا منظوراً تقليدياً فمن الأحرى النظر ﻷهمية الديمقراطية على أنها تتيح فرصة التخلص من العناصر غير الفعالة في الجهاز الإداري، وبذلك تقدم درجة من الحماية لعامة الناس، لذا فالديموقراطية كما يراها فيبر ليست حجم العامة، بل هي الحكم الذي يجمع الصفوة من القادة الأفذاذ وخبراء البيروقراطية.

الديمقراطية الليبرالية وعلم الاجتماعي السياسي عند ماكس فيبر

لقد ألهمت آراء فيبر عن السياسة الديمقراطية الليبرالية علماء الاجتماع السياسي، وأوعزت إلى المنظرين منهم القائلين بحكم الصفوة، بأن الديمقراطية يجب أن تعمل في ضوء الإطار والآراء التي وضع لها فيبر نهجاً يجب أن تسلكه.

ورغم عدم تمكن الباحثين من اقتفاء مراحل التطور الفكري للأفكار التي دعا إليها فيبر، إلا أننا يمكن أن نلاحظ الكثير من أوجه التشابه بين النظريات الجمعية التي تنتقي ما تراه أفضل الحلول من نظريات مختلفة، وبين تنظير فيبر القائل بأن هناك مصادر متنوعة للقوة وأن الأمر لا يقتصر فقط على القوة الاقتصادية، كما أنه يرى أيضاً ألا تترك أمور الحكم والسلطة بيد الصفوة بصورة مُطلقة، بل يجب أن يكون عليها مراقب من قبل الجماعات التي لا بدّ لها من تنظيم أنفسها داخل العملية السياسية.

لكن نظرية فيبر الاجتماعية الخاصة بالسلطة والسياسة لا تخلو من جوانب إشكالية، فرغم إيمانه العميق بأن الديمقراطية ليست إلا وسيلة للحد من سلطة للحد من سلطة البيروقراطية، نجده متشائماً عندما يرى أن النتيجة الحتمية لتطور المجتمعات الحديثة لا تنتهي إلا بغرق الحرية الفردية.

المصدر: أصول البحث الاجتماعي، عبد الباسط حسن. علم الاجتماع الريفي، غريب سيد أحمد. محاضرات في تصميم البحوث، محمد سعيد فرح. مناهج البحث العملي، محمد الجوهري.


شارك المقالة: