الأئمة الأربعة يمنعون الغناء ويذمونه وجميع الملاهي:
لقد عُرف الغِناء على أنّهُ من اللهو، وهو الذي يرتاحُ إليه بعضٌ من الناس ويطربون إلى سماعه، وقد تعددت الفتاوى في حكمهم على الغناء، وكان ينتجُ عن ذلك تعدد أشكال الغناء التي كان يسألُ عنها الفقهاء، فليس كلُ غناءٍ مباح بإطلاقٍ وتعميم ولا أيضاً حراما بإطلاقٍ وتعميم. وقد كان هناك بعض الآراء لأصحاب المذاهب بالنسبة للغناء والمعازف، فقد منعوه وذموه هُو وجميع الملاهي التي تُلهي عن ذكر الله وسنذكر رأي كلّ واحدٍ منهم:
أولاً: الإمام أبو حنيفة رحمه الله: وأمّا رأي أبو حنيفة في هذه المسألة فإنّهُ يكره الغناء، ويحسبهُ من الذنوب وكذلك أيضاً مذهب أهل الكوفة ومنهم: سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم، ولا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة في المنع منه.
وقال ابن القيم: إنّ رأي أبي حنيفة في ذلك الأمر من أقوى المذاهب، وقولهُ فيه أعظم الأقوال، وأنّهُ بيّن أصحابهُ بحرمةِ الاستماع إلى الملاهي كلها، ومن أهمها المزمار والدّف حتى الضّرب بالقضيب وصرّحوا بأنّ ذلك الأمرُ معصيةً، يوجبُ الفسق وتُردّ به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنّهم قالوا: إنّ السماع فِسقٌ، والتلذذ به كُفرٌ، هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثاً لا يصحُّ رفعهُ. قالوا: ويجبُ عليه أنّ يجتهدُ في أنّ لا يسمعه إذا مرّ به، أو كان في جواره.
وقال أبو يوسف: هُناك دارُ تسمعُ منه الناس صوتُ الغناء وآلات العزف وللهو: ادخل عليهم دون أن تستئذن؛ وذلك لأنّ النهي عن المنكر فرضٌ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإنّ أصرّ حبسه، أو ضربه سياطاً، وإنّ شاء أزعجهُ عن داره.
ثانياً: الإمام مالك رحمه الله: لقد نهى الإمام مالك عن الغِناء وعن كل من يستمع للغناء، وقال: إذا اشترى جارية فاكتشف أنّها مغنيةً، يصحُ له أنّ يردّها بالعيب، وسئل مالك رحمه الله: عمّا يرخّص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنّما يفعلهُ عندنا الفساق”.
ثالثاً: الإمام الشافعي رحمه الله: أمّا رأي الشافعي هو أنّ الغناءُ عبارة عن لهو مكروهٌ يُشبه الباطل والمُحال. وإنّ من أكثر من هذا اللهو فهو سفيه تُردّ شهادتهُ. وقد شرح أصحابهُ العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نَسبَ إليه حِلّهُ مثل القاضي أبي الطيب الطبري. وقال الشيخ أبو إسحاق في التنبه: ولا تَصحّ الإجارة على منفعة، محرمة كالغناء والزّمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً.
وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرّمة؛ لأنّه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم. فقد تضمّن كلام الشيخ أموراً منها: أولها، أنّ منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة، وثانيها، أنّ الاستئجار عليها باطل، والثالث، أنّ أكل المال به أكل مال بالباطل، بمنزلة أكله عِوضاً عن الميتة والدم. والرابع، أنّه لا يجوز للرجل بذل ماله للمُغني، ويُحرم عليه ذلك، فإنّهُ بذل ماله في مقابلة محرم، وأنّ بذله في ذلك كبذلهِ في مقابلة الدم والميتة. والخامس، أنّ الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراماً، فكيف بما هو أشدّ منه، كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شمّ رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه: أنّهُ من شعار الفُسّاق وشاربيّ الخمور.
لقد حكى أبو عمرو بن الصلاح بأنهم أجمعوا على حُرمة السماع الذي اشتمل على الدّفّ والشبابة والغناء، فقال في بعض فتاويه: ولكن ما يُباح بالسماع وتحليله ومن المتعارف عليه أنه إذا اجتمع الدّفّ والشبّابة والغناء إذا اجتمعت، فإنّ استماعُ ذلك حرامٌ عند أئمة المذاهب، وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يُثبت عن أحد ممن يُعتدّ بقوله في الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي، إنما نقل في الشبّابة منفردة، والدّف منفرداً، فمن لا يُحصّل الجامعُ هذه الملاهي، وذلك وهمٌ بيّنٌ من الصائر إليه، تُنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يُستروحُ إليه، ويُعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماءُ وأخذ بالرّخص من أقاويلهم تزندق أو كاد.
لقد تواتر عن الشافعي أنّه قال: تركتُ ببغداد أمراً فعلتهُ الزنادقةُ وهو يُسمى بالتغبير، وكانوا يَبعدون به الناس عن القرآن. فإن كان هذا قوله في التغبير وتعليلهُ، أنّه يصدّ عن القرآن، وهو شعرٌ يزهد في الدنيا، يُغني به مغنٍّ، فيضرب بعض الحاضرين بقضيبٍ على نِطعٍ أو مخدّةٍ على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتلفه في بحر، قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كلّ محرّم، فالله بين دينه وبين كل متعلمٍ مفتونٍ، وعابدٍ جاهل. فقال سفيان بن عيينة: كان يُقالُ: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإنّ فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون.
رابعاً: الإمام أحمد رحمه الله: وأمّا مذهب الإمام أحمد في الغناء فقال ابنه عبد الله: سألت أبي عن الغناء، فقال: “إنّ الغناء يُنبتُ في القلب النفاق، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعلهُ عندنا الفساق. قال عبد الله: وسمعتُ أبي يقول: سمعتُ يحيى القطان يقول: لو أنّ رجلاً عمل بكل رخصة؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة؛ لكان فاسقاً”.
قال أحمد: وقال سليمان التيمي: “لو أخذت برخصة كل عالمٍ، أو زلّةٍ كل عالم، لاجتمع فيك الشرّ كله، ودلّ على كسرِ آلات اللهو والمعازف مثل الطنبور وغيره إذا رآها مكشوفةً، وأمكنهُ كسرها”.