القتل الخطأ وكيفية إيجابه للكفارةِ:
لما كان القتل يتنوع إلى عمد وشبه عمد وخطأ وما أجرى مجرى الخطأ والقتل بسبب، فهل تجب في سائر هذه الأنواع كفارةً أم لا؟ نقول في هذا الأمر مايلي:
اتفق الفقهاء جميعاً على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، وجعل الكفارة في موجباته ذلك عملاً بقول الله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. ووجه الدلالة في هذه الآية أنها وردت بلفظ الخبر والمراد منها الإنشاء والتقدير فليحرر رقبةً مؤمنة ولا يقف الأمر عند قتل المؤمن الموجود في دار الإسلام، وإنَّما تجب الكفارة بقتل المؤمن الكائن في دار الحرب، فهذا لا يمنع وجوب الكفارة بقتله عملاً بقوله تعالى:”فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92.
فقد أوجبت الآية الكفارة بقتل المؤمن المقيم في دار الحرب وكذلك تجب الكفارة بقتل الكافر الذي يكون من قوم بيننا وبينهم عهد وهو ما يُسمّى بالمُعاهد والمستأمن الذي يوجد في دار الإسلام عملاً بقول الله تعالى:”وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. وهذا بالنسبة للمقتول، أما بالنسبة للقاتل الذي تجب عليه الكفارة، فقد اشترط الحنفية لوجوب الكفارة على القاتل أن يكون مسلماً، فلا تجب الكفارة على كافر؛ لأنه ليس من أهل القرب.
1. وقال الشافعية والحنابلة تجب الكفارة بالقتل الخطأ على القاتل ولو كان كافراً. واستدلوا على هذا بقوله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً” فإن”من” هي من صيغ العموم فتشمل كل من قتل خطأً مسلماً كان أو كافراً.
والراجح: ما قال به الشافعية والحنابلة من وجوب الكفارة بالقتل الخطأ على القاتل الكافر وذلك، لعموم النص في قوله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً“” النساء:92. ولأن الكفارة فيها معنى العقوبة والكافر من أهلها. وأن إخراج الكافر للكفارةِ في القتل فيه منفعة للمسلمين حيث أن الرقبة المعتقة يشترط فيها أن تكون مؤمنة ويمتنع عليه الصيام؛ لأنه عبادة محضة والكافر ليس من أهلها.
أما من حيث اشتراط بلوغ القاتل وعقله فهي كالآتي:
عند الشافعية والمالكية والحنابلة فإنَّهم لم يشترطوا البلوغ والعقل حيث قالوا تجب الكفارة بقتل الخطأ ولو كان القاتل صبياً أو مجنوناً، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أوجبوا الكفارة على شريكهما على جهة الاستقلال أيّ على كل واحد منهم كفارةً والكفارة تجب في مالهما يُخرجها وليهما، فإنَّ لم يكن لهما مال فينتظر حتى يبلغ الصبي فيصوم ويفيق المجنون فيصوم.
– واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. ودلالة هذه الآية: أنها لم تفرق بين كون القاتل عاقلاً أو غير عاقل بالغاً أو غير بالغ لشمول لفظ “من” لذلك كله. فإنَّ قيل: إنَّ الصبي والمجنون لا يدخلان في الخطاب قلنا أنهما لا يدخلان في خطاب المواجهة أيّ التكليف، وذلك لقوله تعالى:“يا أَيُها الذينَ آمنوا إتقوا الله” ويدخلان في خطاب الأنام بمعنى أنهما يدخلان في خطاب الوضع وإنَّ لم يدخلا في خطاب التكليف.
– وأن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل إذ هو السبب، فارتبط به السبب وهو وجوب الكفارة قياساً على الدية.
2. ويرى الحنفية عدم وجوب الكفارة بالقتل الخطأ إذا كان القاتل صبياً أو مجنوناً. واستدلوا على ذلك بما يلي:
أن الكفارة عبادة فيها التقرب إلى الله، والصبي والمجنون ليسا من أهل الخطاب، للصبا والجنون ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم” رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ” متفق عليه. ومن حيث اشتراط الحرية في وجوب الكفارة في قتل الخطأ على القاتل.
يرى الجمهور وجوب الكفارة على العبد إذا قتل خطأ فلم يشترطوا الحرية في القاتل، فلو قتل العبد خطأ تجب عليه الكفارة وتكفيره يكون بصيامهِ شهرين متتابعين وليس عليه عتق؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. واستدل الجمهور، بعموم قوله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. فقد دلت الآية بعمومها على وجوب الكفارة بالقتل الخطأ ولم تفرق بين ما إذا كان القاتل حراً أو عبداً. ولأن العبد داخل تحت خطاب التكليف لعقله وبلوغه. ولأن العبد آدمي يجري القصاص بينه وبين نظيره في العمد فوجبت بقتله خطأ الكفارة.
وقد خالف المالكية في هذا القول فقالوا: إنَّ العبد إذا قتل خطأ فلا كفارة عليه، وعللوا هذا بأن العبد لا يمكنه التفكير؛ لأن أحد شقي الكفارة وهو التحرير يتعذر عليه؛ لأنه لا يستطيع عتق نفسه، فمن باب أولى لا يمكنه تحرير غيره وسقوط الصيام عنه لانشغاله بخدمة سيده؛ ولأن ما سقط إحدى خصال الكفار فلعذرٍ سقطت الخصلة الأخرى لقيام العذر وإنَّ اختلف.
الكفارة الواجبة في القتل الخطأ:
إنَّ كفارة القتل الخطأ الواجبة على القاتل بسبب القتل تنحصر في ما يلي:
- عتق رقبة مؤمنة، فلا بدّ من توافر شرط الأيمانِ للنصِ عليه صراحة عليه في قوله تعالى:””وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. ويشترط فيها أيضاً أن تكون سالمة من العيوب مملوكة للعتق مُلكية تامة كما تقدم في كفارة الصوم، وقد تكرر وصف الأيمانِ في الرقبة ثلاث مرات في آية النساء المتقدمة وذلك لأهميته والاعتداء به ولا يلحق بغيره وإنَّ لحق غيره به كما في الظهار وغيره.
- صيام شهرين متتابعين: والصيام لا يجب بادئ ذي بدء، وإنَّما ينقل إليه المكفر عند العجز عن تحرير رقبة مؤمنة. ويُشترط في الصيام التتابع، فإنَّ انقطع التتابع لعذرٍ كانقطاعهِ بصوم رمضان أو بالعجز عن مواصلة الصيام أو مصادفته أيام التشريق أو حيض المرأة، فإنَّ العُذر لا يوجب الاستئناف.
أما إذا قطع التتابع لغير عذر، فإنَّ عليه أن يستأنف الصوم من جديد وعلى هذا تكون الكفارة في القتل الخطأ “مرتبة” إجماعاً. ولكن إذا عجز المكفر عن تحرير الرقبة والصيام فهل يلجأ إلى الإطعام. هناك قولان عند الشافعية على هذا الأمر وهما:
– يرى له أن يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ. وعلة ذلك أنه كفارة فيها العتق والصوم، فعجزهُ عنهما يوجب عليه الإطعام قياساً على كفارة الجماع في رمضان وكفارة الظهار وقد ذكر الإطعام فيهما بالنص فيلحق بهما.
– أنه لا يلزم العاصِ عن العتق والصيام إطعاماً والدليل على ذلك: إنَّ الله تعالى ذكر في كفارة القتل العتق والصيام فقط ولم يذكر الإطعام، وقد ذكر الإطعام في كفارة الظهار والوِقاع ولو كان الإطعام واجباً في كفارة القتل لذكره، ولكنه لم يذكره فدل على أنه لا يلجأ إليه القاتل عند العجز وقوفاً على ما ذكره النص.