اقرأ في هذا المقال
الولاء والبراء والأسوة الحسنة في قصة إبراهيم عليه السلام:
لقد ضرب إبراهيم عليه السلام أروع الأمثلة في تحقيق عقيدة الولاء والبراء ولقد جعله الله لنا قدوة وأسوة حسنة في ولائه لله ودينهِ والمؤمنين، وفي براءته لأعداء الله ومنهم أبوه الذي دعاه فلم يستجب لدعوته، فما كان منه إلّا أن هجرهُ، وقد ذكر الله قوله في براءته من أبيه فقال: “قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا –وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا–فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” مريم:47-49. لقد دعا أباه بالحسنى، فلم يكن ثمة تجاوب وقبول بهذه الدعوة، فكان الاعتزال أولى لأهل الباطل، ومن ثم كان إكرام الله لإبراهيم عليه السلام أن وهبه من الصالحين في ذريته.
ومما هو جدير بالذكر أنه لم يكن تبرؤه فقط من أبيه، بل إنه أقام الحجة على قومه في بطلان عبادتهم للأصنام، ولكنهم أبو النصح وآثروا تقليد الآباء، فما كان منه عليه السلام إلّا أن تبرأ من الأصنام التي عبدوها قائلاً لهم: “قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون- أنتم وآباؤكم الأقدمون- فإنهم عدُوّ لّي إلّا رب العالمين” الشعراء:75-77.
ولا ننسى أن الله أمرنا أن نُعلن البراءة من الكفار كما أعلنها إبراهيم عليه السلام، وكان لنا بذلك قدوةً في القول، فقال جل وعلا: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير” الممتحنة:4.
فمن هنا تظهر عقيدة الولاء والبراء التي تحدث بها أجل العلماء، وهي أنه لا تصح موالاة إلا بمعاداة كما في لفظ لا إله إلّا الله، ففي الألوهية عن غير الله وإثباتها لله، وهذا عين الولاء والبراء، قال ابن القيم: لا تصحُ الموالاة إلّا بالمُعاداة، كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين، أن قال لقومه: “قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ- أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ– فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ” الشعراء:75-77.
فلم تصح لخليل الله هذه الموالاةُ والخُلةُ إلّا بتحقيق هذه المعاداة، فإنه لا ولاء إلّا لله ولا ولاء إلا بالبراء من كل معبود سواهُ، فقال تعالى: “إلّا الذي فطرني فإنهُ سيهدين- وجعلها كلمة باقية في عقبهِ لعلّهُم يَرجِعُون” الزخرف:26-28. أي جعل هذه الموالاة لله، والبراءة من كل معبود سواه كلمةً باقية في عقبهِ يتوارثها الأنبياء بعضهم عن بعض، وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وفي هذا بيان أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام تقتدي بخليل الرحمن عليه السلام في فعله هو والذين معه لما تبرؤوا من الكفار، وتركوا ولايتهم إلا في استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، فلا قدوة للأمة في هذا الأمر؛ لأنه كان على موعدة وعدها إياه، فلما ظهر له عليه السلام أنه عدو الله أعلن براءته منه.
الاقتداء بملة إبراهيم عليه السلام:
ومما يؤكد العقيدة أن الله أمر هذه الأمة بالاقتداء بملة إبراهيم عليه السلام في ذلك وغيره فقال: “قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” آل عمران:95. وقال أيضاً: ” وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا” النساء:125. وكان حياً من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم عليه السلام فقال تعالى: “ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً وما كانَ من المُشركين” النحل:123.
وجعل المؤمنين إلى يوم الدين هم أولى الناس بالاعتزاز بركب خليل الرحمن فقال جل شأنه: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين” آل عمران:68. وفي هذا إثبات الولاء لله تبارك وتعالى ولعباده المؤمنين.
وأخبر الله عن قول إبراهيم والذين معه، لما فارقوا قومهم وأعلنوا البراءة منهم، فقد أخبر أنهم لجأوا إلى الله وتضرعوا إليه قائلين: “رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ–رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” الممتحنة:4-5. ومعناه أي يارب توكلنّا عليك في أمورنا كلها، فأنت الذي إليك المعاد في الدنيا والآخرة، وطلبوا من الله أن لا يُعذبهم.