اقرأ في هذا المقال
- تفويض عيسى عليه السلام أمر قومه لمشيئة الله تعالى
- تفسير الآية الكريمة “وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً“
- ما هو الرزق الخفي الذي بعثهُ الله لقوم عيسى عليه السلام
- ما هي الفتنة في عيسى عليه السلام؟
تفويض عيسى عليه السلام أمر قومه لمشيئة الله تعالى:
تفويض عيسى عليه السلام أمر قومهِ لمشيئة الله تعالى: لقد جاء على لسان عيسى عليه السلام: “إنّ تُعذِبهُم فإنهم عِبادك وإنّ تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم” المائدة:118. وهناك قائلٌ يقول أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح، فقد فُتن بعض أتباع عيسى عليه السلام، فاتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله تعالى، فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآيةِ؟ ونقول: إنّ عيسى عليه السلام لم يقل: يارب اغفر لهم، ولكن؛ قال مُجيباً ربّهُ: “إنّ تُعذبهم فإنهم عبادك وإنّ تغفر لهم فإنك أنتَ العزيز الحكيم” فقد فوضّ عيسى الأمرَ لربهِ عزّ وجل وهو مثل رسول من عند الله تعالى يعلمُ أن رحمةَ الله سبحانهُ وتعالى سبقت غضبهُ، وأنّ له طلاقةَ القدرة.
ونحنُ نعرف أن كل خلق الله هم عبيد للهِ، لكن المطيعين لله عزّ وجل والمؤمنين به خاصةً هم عباد الله سبحانه وتعالى، فالخلق نوعان: عباد لله ذهبوا إليه إيماناً ومحبةً عن الله، بل أنه كفر بما آتاه الله من قدرةِ اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكأن الحق قادراً على أنّ يخلق خلقاً لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يأمرهم به صاحب الأمر والنهي، وقد فعل الحق ذلك مع الملائكةِ، لكن قدرة الله تُثبتُ صفةً من صفات الله، وهي القهر، ولا تُثت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أنّ يؤمن أو أن يكفر، ثم يختارُ الإيمان، إنّهُ بذلك آمن محبة واختيار، وهكذا يُريدُ الله عزّ وجل بخلقهِ المؤمنين به، فكلُ الوجود ما عدا الإنس والجن مقهور ولا يقدر على المعصيةِ، فالشمسُ والقمر والمطر والهواء والسحاب وكلّ ما في الكون مقهورٌ لله القهار.
إذن، فعيسى عليه السلام أراد الله جلّت قدرته خلقاً مقهورين على الإيمانِ به ما استطاع أحدٌ من خلقهِ أن يكفر به، ولكن الحق أراد أنّ يُثبت صفة القهر فيما دون الإنس والجن، أما الإنس والجن فقد خلقهم الله مختارين بين الكفر والإيمان، حتى تأتي بعضٌ من العباد؛ ليصنعوا ما يحبهُ الله ويرضاهُ ويتّبعوا منهج الله، فيُجازيهم اللهُ الجزاء الحسن، ويأتي فريقٌ آخر فيكفرون بالله ويرفضون منهجه بمحضِ إرادتهم واختيارهم، فأولئك لهم الجزاء السيئ حسب عملهم، وهناك فريقٌ آخر ليس عليه تكليف، والتكليف للعباد لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط وهي:
الشرط الأول: أن يوجد العقل.
والشرط الثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد.
والشرط الثالث: ألا تكون هناك قوةً أعلى من الإنسانِ تُهدد حياتهُ وتقهرُ على فعلٍ ما.
من هم الذين يخرجون من دائرة التكليف؟
هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف؛ وهم المجنون، ومن لم يبلغ الحلم والمكروه، والحق قد أعطى مع التكليف الثواب على طاعة والعقاب على المعصية، وبذلك ليس لك عند الله سبحانه وتعالى حجة أيها الإنسان، ومن دخلَ التكليف طائعاً فهو من عباد تعالى، ومن عصى الله وخرجَ عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كلّ شيءٍ فيما عدا الاختيار.
إذن فالعباد هم الذين دخلوا العبودية، أنهم قد وازنوا بين الإيمان ونقيضهِ الكفر، أي بين المُراد لله هزّ وجل وغير المُراد لله تعالى.
فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم عليهما السلام: رغمَ علمهِ بكفرهم: “إنّ تُعذبهم فإنهم عِبَادُك”. فمعنى العباد والعبيد، وهو وضع الإنسان في الدنيا، لكن علينا أن نعرف أنّ هذا الحوار الذي نقروه بين عيسى عليه السلام وبين الله يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عبادٌ مقهورين، وعندما نستقرئ كلمة عباد لا في القرآن، فإننا نجدُ أن العباد هو الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: “وعبادُ الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً”. إنهُ يأتي هنا بالخصالِ الجميلة لهذه الصفوةِ من العباد والشيطان نفسهُ يُعلن عدم استطاعتهِ إغواء العباد المُخلصين. فقال تعالى: “إلّا عِبادكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ”.
وكم قلنا: عندما يسأل الله عيسى عليه السلام في الموقف العظيم يوم القيامة عن الذين فتنوا فيه وفي أنهِ، سيجيبُ قائلاً: “إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” المائدة:118. وهذا التّذليل لكلمات عيسى ابن مريم عليه السلام لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله، وأشركوا به فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمرهِ ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة من دون الله. فالله القادر العزيز إنّ شاء غفرَ لهم وإن شاء عذبهم بمقتضى عزتهِ وحكمتهِ سبحانه وتعالى، أما بعض السطحيين قالوا تلمّزوا في القرآن: ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى : إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول: إنّ كلُ كلمةٍ في القرآن تأتي في مكانها بالضبط ولا تحل مكانها كلمةً أخرى؛ لأنهُ كلامُ الله وإلا اختلف المعنى المُراد، ولذلك جاء التذييل في الآية دالاً إعجاز القرآن الكريم.
تفسير الآية الكريمة “وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً“:
إننا نحنُ هنا أمام مناطُ الرحمة من الله تعالى، فقد كان يكفي ارتكابهم لأي عملٍ من أعمالهم السيئة، وأنهم ارتكبوا أفعالاً كثيرة وهذا يدلُ على أن الله تعالى يترصدُ لعباده، ولكن يستعمل العباد إلى الإيمان؛ فقد ارتكبوا أربعة أفعالاً جسيمةٍ ألا وهي نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم طبع الله على قلوبنا، ومن رحمة الله تعالى أنّ جعل هذه الأفعال كلها جريمةً واحدة.
وبعد ذلك يذكر الله تعالى جريمة أخرى من جرائمهم وهي:”وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً” النساء:156. فالحقُ تعالى ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين جميع الأفعال الأخرى التي ارتكبها قوم عيسى عليه السلام؛ وذلك لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة نبيّ من أولي العزم من الرسل إنهُ نبيٌ خصهُ اللهُ بأشياء، وأن هذه الأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه، إنهُ عيسى ابن مريم عليه السلام، الذي خلقهُ اللهُ خلقاً خالصاً، فالله تعالى خلق آدم عليه السلام من الطين، ونفخَ فيه من روحهِ، فجاء من غير أصول مثل الأب ولا أم وخلق حواء من أصلٍ واحد هو آدم عليه السلام بدون أم وخلق البشر وجعلَ نسلهم من سلالةٍ من ماءٍ من مهين، أما عيسى عليه السلام فقد خلقهُ الله تعالى، فقد جاء من أمٍ من غير أب، فكيف استطاعوا أن يكفروا به.
وأمهُ مريم البتول عليها السلام التي عاشت في كفالة نبي الله زكريا عليه السلام، وكانت خادمةِ بيت المقدس وتربت تربيةً عظيمةً، فكيف يتهمونها بالفاحشةِ، فإن هذا الإتهام الباطل من أعظم البُهتان، فالله تعالى حدد سبيلين لكفرهم وهما:
– قولهم البهتان على مريم عليه السلام وهو كفرٌ بالله تعالى.
– وكفرهم بعيسى عليه السلام الذي وُلد بغير طريقة الميلاد العادية؛ رغم أن هذا تكريم لهُ، وتقريع لليهود الذين غرقوا في الماديةِ، حتى إنهم قالوا: “أرِنّا اللهَ جَهرَةً”.
ما هو الرزق الخفي الذي بعثهُ الله لقوم عيسى عليه السلام:
إنّ الله تعالى عندما رزقهم برزقٍ غيبي لا يعرفون أسبابهُ، وكما رزقهم الله بالمن والسلوى، وقالوا لهذا الرزق: نحن لا نريد أن نزرع نباتاً لينمو من الأرض ولا ننتظرُ الغيب؛ لأن الغيب قد يضنّ علينا، وذلك قول الله تعالى: “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ” البقرة:61. فإنهم لا يثقون بما في يدّ الله ويريدون الأمر المادي.
فلذلك الأمرُ ألفتهم اللهُ تعالى بلفتةٍ قسرية، ويأتي بأمرٍ يُناقض قانون المادة من أساسهِ ألا وهو ميلادُ عيسى عليه السلام، فالبشر في مجيئهم المادي إلى الدنيا يأتي الواحدُ منهم من أبٍ وأم ولكن الله تعالى في خلقِ عيسى عليه السلام جاء به من أمٍ دون أب وبذلك انتقضت الماديةُ، وذلك أنهم ماديون، وغلوا عن الخلقِ الأولِ.
ما هي الفتنة في عيسى عليه السلام؟
لقد صنع ميلاد عيسى عليه السلام ابن مريم هزّةً لليهود الماديين، ونقض أمامهم الأساس التقليدي لمجيء الإنسان إلى الدنيا بأصل واحدٍ وهو الأم، فالله تعالى يُثبت طلاقة القدرة، والحق تعالى إنما جعلَ الأسباب للبشر، فإنّ أراد البشرُ شيئاً فعليهم أن يأخذوا الأسباب، ولكنّ الله حين يُريد شيئاً فإنه يكونُ بلا أسباب، فهو الذي خلق الأسباب وجعلها تحدث. إذن فليست المسألةُ مدارُ أسباب توجد؛ بل مسبّبٍ يُريد أن يوجد، ولقد أراد الحقُ أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورةِ؛ ليُلفت بني إسرائل لعلهم يخرجون من ماديتهم ويُثبتُ لهم طلاقة قدرتهِ. ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبلاً على غير ما كان يجب عليهم.