كيف يكون حشر الدنيا؟
والحشرُ الذي ذُكر في الأحاديث يكون في الدنيا، وليس المقصود به هو حشرُ الناس بعد بعثهم من القبور. وقد ذكر القرطبي، أن الحشرُ معناه هو الجُمه، ويأتي على أربعة أوجهٍ وهما: إجلاء بني النضير إلى الشام، والثاني: حشر الناس قبل يوم القيامة إلى الشام، وهي النار المذكورة في بعض الأحاديث.
لقد أجمع العلماء على أن الحشرُ هو في الدنيا، كما ذكره القرطبي، وابن كثير وابن حجر، وهو الذي تدلّ عليه النصوص. وقد ذهب بعض العلماء، مثل الغزالي والحليمي إلى أن هذا الحشر لا يأتي في الدنيا، ولكن هو في الآخرة. وذكر ابن حجر أن بعض شُرّاح المصابيح حملهُ على الحشر من القبول، واحتجوا على ذلك بعدة أمور وهي:
– أنّ الحشر إذا أُطلق في عُرف الشرع، إنما يُراد به الحشر من القبور، ما لم يخصهُ دليل.
– أن هذا التقسيم في الخبر لا يستقيمُ في الحشر إلى الشام؛ لأن المهاجر لا بدّ أن يكون راغباً أو راهباً أو جامعاً بين الصفتينِ.
– أنّ حشرَ البقية على ما ذكر، وإلجاءُ النار لهم إلى تلك الجهة وملازمتها حتى لا تفارقهم: هو قولٌ لم يرد به التوقيف، وليس لنا أن نحكم بتسليط النارِ في الدّنيا على أهل الشّقوة من غير توقيفٍ.
– أن الحديث يُبيّنُ بعضه بعضاً، وقد وقع في الحسان من حديث أبي هريرة، وأخرجه البيهقي من وجهٍ آخر عن علي بن زيد عن أوس بن أبي أوس عن أبي هريرة بلفظ: ثلاثاً على الدّواب، وثلاثاً ينسلون على أقدامهم، وثلاثاً على وجوههم” وهذا التقسيم الذي في هذا الخبر موافق لما جاء في قوله تعالى:”وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً” الواقعة:7. فالإجابة تتلخصُ بما يلي:
1. أن الدليلُ قد جاء على أنّ هذا الحشر في الدنيّا كم سبق ذكر الأحاديث بذلك.
2. أن التقسيم المذكور في آيات سورة الواقعة لا يستلزم أن يكون هو التقسيم المذكور في الحديث؛ فإن الذي ورد في الحديث ورد على القصد من التخلّص من الفتنة، فمن اغتنم الفرصة سار على فسحةٍ من الظهر ويسرةً من الزادّ راغباً فيما يستقبله راهباً فيما يستدبرهُ، وهم الصنف الأول في الحديث، ومن تواني حتى قلّ الظهر اشتركوا فيه وهم الصنف الثاني والصنف الثالث هم الذين تحشرهم النار وتسحبهم الملائكةُ.
3. لقد تبيّن من دلائل الأحاديث؛ بأنه ليس المقصودُ بالنار هي نار الآخرة، وإنما هي نارٌ تخرجُ في الدنيّا، والتي أنذر النبي عليه الصلاة والسلام بِخروجها، وذكر كيفيةُ ما تفعل في الأحاديث المذكورة.
4. أن الحديث الذي احتجّوا بهِ لا يُخالفُ الأحاديث التي بيّنت أن هذا الحشر في الدنيا، وقد وقع في حديث علي بن زيدٍ المذكور عند الإمام أحمد، أنهم يتّقون بوجوههم كلّ حدبٍ وشوكٍ وأرض الموقف يوم القيامة أرضٌ مستوية لا عِوج فيها ولا أكمة ولا حدبَ ولا شوك. فتح الباري.
فقد قال النووي: “قال العلماء: وهذا الحشر في آخر الدّنيا قُبيل القيامة، وقُبيل القيامة، وقبيل النفخُ في الصور، وذلك بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تُحشرُ بقيتهم النار، تبيتُ معهم وتقيلُ وتُصبحُ وتمسي”. شرح النووي لمسلم.
أما الحافظُ ابن كثير قال بعد ذكره للأحاديث الواردة في خروج النار: موضحاً بأن هذا الحشرُ في الدنيّا. فجميعُ هذه الأمور تدلُ على أن هذا الحشر، هو حشرُ الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محلة المَحشرِِ، وهي الأرضُ الشام، وممّا يدلُ على أن هذا في آخر الزمان، حيثُ هناك الأكلُ والشرب والركوبُ على الظهر المشتري وغير ذلك كله، وأيضاً حيث تهلكُ المتخلفين منهم النار، ولو كان هذا بعد نفخةُ البعث لم يبقَ موتٌ، ولا ظهرٌ يُشترى ولا أكل ولا شرب ولا لبسٌ.
وأما حشرث الأخرة؛ فغنهُ قد جاء في الأحاديث أن الناس مؤمنهم وكافرهم سيُحشرون عُراةً وحفاةً غرلاً بهماً، ففي الصحيحين عن ابن عباس، قال: قام فينا النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فقال:” إنكم محشورون حُفاةً عُراة غرلاً،” كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ”الأنبياء:104. وإن أول الخلق يُكسى يوم القيامةِ إبراهيم الخليل”. صحيح البخاري.
وقال أيضاً ابن حجر: ومن أين للذين يُبعثون بعد الموتِ عراةً حفاة حدائق حتى يَدفعوها في الشوارفِ. فتح الباري. فدلّ هذا على أنّ هذا الحشرِ يكونُ في الدنيا قبل أن يكون يومُ القيامة، ومن ذهبَ إلى خلافِ ذلك فقد جانب الحق وابتعد عنه، والله هو الذي يعلمُ بذلك فقط.