التكييف الفقهي للأرش:
إن المراد بالتكييف الفقهي؛ أي تحرير المسألة عند الفقهاء وبيان انتمائها لأصلها، ومن الجدير بالذكر أن الفقهاء على اختلاف مذاهبهم لم يتعرضوا لطبيعة التكييف الفقهي للأرشِ أو الدية، وإنما كانت المسألة محل بحث واختلاف بين الباحثين المعاصرين، فاختلفوا في طبيعة الدّية بما فيها الأرشِ وأصلها هل هي عقوبة أم تعويض، وهذا يتطلب بحث المسألة وبين أصلها، ولكن لا بد أولاً من بحث الفرق بين العقوبة والتعويض وذلك يكون مطلبين:
الأول: الفرق بين العقوبة والتعويض.
الثاني: والأرش بين العقوبة والتعويض.
الفرق بين العقوبة والتعويض:
ويمكن بيان الفرق بين العقوبة والتعويض من حيث المعنى والحكمة وأسس كل منهما.
الفرق بين العقوبة والتعويض من حيث المعنى:
العقوبة شرعاً: هي عبارةٌ عن جزاء وضعهُ الشارع لردعِ من يعصاهُ، بارتكاب ما نهى عنه أو ترك ما أمر به.
التعويض: وهو دفع ما وجبَ من بدلٍ مالي بسبب إلحاق ضررٍ بالغير.
وبناءً عليه فإن العقوبة جزاء مترتب على جناية، أما التعويض فليس فيه معنى الجزاء وإنما فيه معنى الجبر للضرر الواقع.
الفرق بين العقوبة والتعويض من حيث الحكمة:
فالحكمة من العقوبة تتمثل في تحقيق غرضين:
الأول: تحقيق الردع الخاص؛ أي ردع الجاني وإصلاحه وتهذيبه بمنعه عن معاودة ارتكاب الجريمة مرةً أخرى بعد وقوعها، وليس المقصود من العقوبة التشفي من المجرم أو الإنتقام الشخصي.
الثاني: تحقيق الردع العام؛ وذلك بزجر العامة وردعهم عن ارتكاب الجريمة، وبالتالي محاربة الجريمة قبل وقوعها، فالعقوبة وإن كانت تمس بدن الجاني أو نفسه أو حريته، إلا أنها تؤدي إلى درء مفسدةٍ وجلبِ مصلحة للمجتمعِ بأكمله، وذلك بمنع المكلفين من الإقدام على تلك الجرائم؛ أي تحقيق الردع العام. ولهذا قال العلماء عن العقوبة أنها “موانع قبل الفعل وزواجرٍ بعده”.
أما التعويض: فيهدفُ إلى جبر الضرر الناشِيء عن الجريمة وإصلاحه بإزالته، أو على الأقل التقليل والتخفيف منه، وهو خاصٌ بالمجني عليه؛ أي فيه جبرٌ لما فات على المجني عليه من الجريمة.
الفرق بين العقوبة والتعويض في الأسس والمبادئ التي تقوم عليها:
- العقوبة مقررة في الشريعة الإسلامية قبل ارتكاب الفعل، وفيها إنذار وتحذير لمن يفكر في الجريمة، فتنذرهُ
بعقوبة الجريمة قبل ارتكابها. بينما التعويض، لا يكون مقدراً بواسطة المشرع ولا يعرف قدرهُ إلا بعد وقوع الفعل الضار ومعرفة مقدار الضرر الذي أحدثه. - العقوبة تُقاس بمقدار جسامةِ الجريمة وقصدِ الجاني واهليتهُ. أما التعويض، فلا ينظر فيه إلى درجة المسؤولية، بل يعتدُ فقط بمقدار الضرر، ويجب في مال المرتكب للفعلِ الموجب للضمان وإن لم يكن مكلفاً أو كان مخطئاً أو مكرهاً أي وإن لم يكن أهلاً للمسؤولية الجنائيةِ.
- العقوبة لا تقع إلا على الجاني الذي ارتكب جريمتهُ، أو شارك فيها ولا تقع على غيره من أفراد أسرته أو ورثته أو غيرهم ممّن لا يداً له في ارتكاب الجريمة. أما التعويض، قد يُشاركهُ في تحمله غيره، مثل الأهل والأقارب؛ لأن التعويض ينظر فيه إلى مقدار الضرر الواجب إزالتهُ بالتعويضِ بغض النظر عن مرتكب الضرر.
- لا يجوز التنازل عن العقوبة التي تجب حقاً لله تعالى أو التي يغلب فيها حق الله أو إسقاطها لما في تطبيقاتها من مصلحةً للمجتمعِ وحفاظاً على النظام العام، وإذا عفا المجني عليه أو أولياؤهُ في العقوبة التي تجب حقاً للإنسان، كان للحاكم حقُ تعزير الجاني بما يراهُ مناسباً لزجرهِ وإصلاحهِ ومحققاً لمصلحة الجماعة.
أما التعويض، فهو حقٌ خالصٌ للمضرورِ ويجوز أن يُسقطهُ أو يتنازل عنهُ من غير مقابل. فالأمر المهم في هذا البحث هو أن العقوبة ينظرُ فيها إلى شخص الجاني، أما التعويض فينظرُ إلى مقدار الضرر من غير اعتبارٍ الشخصِ الجاني.