الحبس غير محدد المدة:
إن الحبس غير محدود المدة قد وردت فيه أقضية وأقوال كثيرة للفقهاء: منها ما قيل فيه بالحبس حتى الموت، أو التوبة حتى الموت، ومنها ما قيل فيه بالحبس حتى التوبة وصلاح حال المحكوم عليه.
1. ومن الأمثلة التي وردت في النوع الأول هو ما جاء بالحبس حتى الموت ومنها:
حكم النبي عليه الصلاة والسلام على من أمسك رجلاً لآخر حتى قتله بالحبس حتى الممات. فقد قال في ذلك: “اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر” وقد فسرت عبارة: واصبروا الصابر، بحبسه حتى يموت؛ لأنه حبس المقتول للموت، بإمساكه إياه للآخر حتى قتله.
ومن ربط آخر وألقاهُ أمام أسد فأهلك، فعند أبي يوسف يُحبس حتى يموت في السجن، كما هو مذهب علي بن أبي طالب. ومن أوثق آخر وألقاهُ في الشمس، وألقاه في برد شديد حتى مات، فعليه الحبس حتى يموت. وقد سجن عثمان بن عفان ضابئ بن الحارث، وكان من لصوص بني تميم وفَتاكهم، حتى مات في السجن.
2. أما الأمثلة على الحبس حتى الموت أو التوبة ومن هذه الامثلة:
من يُتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس، يُحبس ويُخلد في السجن حتى يُظهر التوبة. ويُعلل ابن عابدين ذلك بأن شر هذا الجاني موجه إلى الناس، ففي حبسه وتخليده في السجن دفعاً لهذا الشر عنهم.
ومن لاطَ بغلامٍ فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ولكنه يُعزر أشد التعزير ويحبس حتى يتوب أو يموت. ومن خدع الناس أو البنات، وأخرجهن من بيوتهن، وأفسدهنَ على أزواجهنَ أو آبائهن، فقد قال محمد في ذلك: يحبسه حتى يرجع من خدع أو يموت. وعلل ذلك في الخلاصة: بأن هذا الجاني يُعتبر ساعياً في الأرض بالفساد. وجاء في السندي أن هذا التعليل يقتضي أن يباح قتله، إلا أنه يقيد القتل يكون ذلك عادة للجاني. والمُبتدع الداعية عند أحمد بن حنبل، يحبس حتى يتوب أو يموت.
3. أما الأمثلة التي قيلت في النوع الثاني؛ وهو الحبس حتى توبة المحكوم عليه:
مثل الصبي العاقل إذا ارتد عن الإسلام، فإن أبا حنيفة ومحمداً يُعتبران ردته ولكن أبا يوسف لا يعتبرها، ويقول: بأن ارتداده ليس ارتداداً ولكن إسلامه إسلام. وإذا اعتبرت ردته عندهما فإنه لا يقتل ولكن يُجبر على الإسلام ويُحبس في ذلك حتى تظهر توبته وخشوعه، ويخلي سبيله إذا أسلم. وغنى عن البيان أنه إذا بلغ دون أن تظهر توبته وخشوعه، فإنه قد بلغ مرتداً، فيسري عليه حكم المرتد؛ بمعنى أنه يقتل إن لم يُعد إلى الإسلام. ومن يسرق في المرة الثالثة لا يقطع عند الحنفية، ولكنه يُعزر ويحبس حتى يتوب.
4. ومن الأمثلة التي قيل بها في هذا النوع من الحبس، نجد أن منها ما حدّ الحبس فيه التوبة أو الموت.
ومن هذه الجرائم: إمساك المجني عليه للقاتل حتى يقتله وتكرر الاعتداء على النفس بالقتل أو الضرب وعلى المال بالسرقة، وشد وثاق آخر وإلقاؤهُ أمام حيوان مفترسٍ فيُهلكه وإلقاء شخص لآخر على هذا الوضع في الشمس حتى يموت حرّاً وعطشاً، أو في بردٍ حتى يموت منه، واللواطة وما يأخذ حكمها عند أبي حنيفة وخداع النساء أو البنات، وإخراجهنّ من بيوتهنّ وإفسادهنّ والدعوة إلى البدعة عند الإمام أحمد بن حنبل.
كما أن منها ما قيل فيه بالحبس حتى التوبة، أو الإقلاع عن مثل ما حبس الجاني من أجله.
5. ومن الأمثلة ارتداد الصبي العاقل عن الإسلام عند أبي حنيفة ومحمد إذ يعتبران ردته بخلاف أبي يوسف، والذي لا يعتبرها، وكذلك السحر الذي لا يحكم بارتداد من يأتيه والسرقة في المرة الثالثة عند الحنفية، وذلك خلافاً عند الشافعي الذي يقول بالقطع، والاعتياد على سرقة أبواب المساجد، والاشتباه بالاعتياد على الاعتداء على النفس والمال أو الاشتهار بذلك والعود والشتم.
وفي جميع الأمثلة التي قيل فيها بالحبس حتى الموت أو التوبة نجد أن الجرائم تناهت في الخطورة، وفي جنس بعضها حدود، ومنها ما يقول البعض فيه بالقتل قصاصاً أو تعزيراً أو الرجم أو الجلد حداً، فهي اعتداء، إما على النفس أو على المال أو على العرض أو على الدين، وفي بعضها يُشترط تكرار الفعل، وهذا ينمُ عن خطورة الجاني واعتيادهِ الإجرام، الأمر الذي يستاهل الإطالة في حبسه لأمن شره، كما قال ابن عابدين بحق، موجه إلى الناس، ففي حبسه وتخليده في السجن دفع لِهذا الشر عنهم، وإخلاء للعالم من مفاسده فضلاً عمّا فيه من زيادة ردعٍ له ولغيره.