حكمة الصَّوم : إنَّ الحكمة التّشريعية للصّوم هي تربية إرادة الإنسان على تحرير نفسه من القيود الضّروريّة الّتي تأسره وتغلّه، وتبدو عند كلّ إنسان ضعيف ومُتخاذل، بينما المؤمن قويٌّ بإيمانه، وعبادته لله تعالى وحده عليها، محتقر لها، ومتخلٍ عنها، فالحريّة ذاتها هي عبودية لله وحده، وكأنها لا تحقق بتمامها وكمالها، إلا حين تتحقّق الحرية من كلِّ قيد، وحين يوجد الخلاص من كل أسر، وقد قال أحد العلماء إنَّ في الحرية تمام العبودية، وفي تمام الحرية تحقق العبودية.
أهم الحكم التشريعة للصوم:
من أهم الحِكم التشريعية التي شرعها الله تعالى للصائمين وهي:
- التسليم لأمر الله تعالى: وهذا مقتضيات العبودية لله تعالى؛ فإنَّ مبنى العبودية على التسليم والانقياد، وتنفيذ أمر الله من غير اعتراض؛ لأنَّ مقتضى العبادة لله وحده أن يُخضع العبد أموره كلّها لما يحبَّه تعالى ويرضاه، ومن الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يُكيَّف حياته وسلوكه وفقا لهداية الله وشرعه، فإذا أمرهُ الله تعالى أو نهاه، أو أحلَّ له أو حرَّم عليه كان موقفه في ذلك كله “سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير”.
فالفرق ما بين المؤمن وغيره؛ أنَّ المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه، وخرج من طاعة هواه إلى طاعة الله ، أن يقول الرب: أمرتُ ونهيتُ، ويقول العبد: سمعت وأطعت.
.
- أن الصيام فيه إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان:
فالإنسان ذو طبيعة مزدوجة، فيه عنصر الطين، وعنصر الروح الإلهي الذي نفخه الله فيه، عنصر يشده إلى أسفل، وآخر يجذبه إلى أعلى، فإذا تَغلَّب عنصر الطين هبط إلى حضيض الأنعام، أو كان أضل سبيلا، وإذا تغلب عنصر الروح ارتقى إلى أفق الملائكة، وفي الصوم انتصار للروح على المادة، وللعقل على الشهوة.
ولذا قيل للإمام أحمد : أيخشع القلب والبدن شبعان؟ قال: ما أظنُّ ذلك .
فالصّائم وقد حبس نفسه عن الطعام والشراب وترفعت نفسهُ، وصفت روحه وشعر بالرِّقة، وتنعم بالأنس .
ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كلُّ صائم كلَّما وفق إلى إتمام صوم يوم حتى يفطر، والتي عبّر عنها الحديث النبوي: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)“متفق عليه”.
ففي الصّيام تزكية للنفس بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، وتدريبها على كمال العبودية لله تعالى، ولو كان ذلك بحرمان النفس من شهواتها، والتحرُّر من مألوفاتها فتكون التخلية من الطعام نهارا، والتحلية بالقيام ليلا وفي هذا جاء في حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال:(يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) “متفق عليه”.
- إن الصوم تربية للإرادة وجهاد للنفس، وتعويد على الصبر: والصّيام يتمثل فيه صبران وهما صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ على المعصية.
وقد سَمَّى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ شهر رمضان”شهر الصبر”.
كما اعتبر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ “الصيام جُنَّة”. أي درعاً واقياً من الإثم في الدنيا، ومن النار في الآخرة.
ومن المتفق عليه أن الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان، حتى اعتبرتها بعض المدارس النفسية هي المحُرك الأساس لكلِّ سلوك بشري ، وللصوم تأثيره في كسر هذه الشهوة، وإعلاء هذه الغريزة، وخصوصًا إذا داوم المؤمن عليه ابتغاء مثوبة الله تعالى.
ولهذا وصفه النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ للشباب الذي لا يجد نفقات الزواج، حتى يغنيه الله من فضله، فقال:.”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) “رواه البخاري عن ابن مسعود”.
- إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه: فإنَّ فقدان النعم يفقد الإنسان الإحساس بقيمتها، ولا يعرف مقدار النعمة إلّا عند فقدها، وبضدها تتميز الأشياء.
فإنما يحس المرء بنعمة الشبَع والرِّي إذا جاع أو عطش، فإذا شبع بعد جوع، أو ارتوى بعد عطش، قال من أعماقه: الحمد لله، ودفعه ذلك إلى شكر نعمة الله عليه.
وهذا ما أشير إليه في حديث قال فيه ــ صلى الله عليه وسلم ــ:(عَرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاءَ مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكنّي أشبع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرَّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)” رواه أحمد والترمذي وفيه ضعف.
- وهناك حكمة اجتماعية للصّيام: أنَّه يفرض الجوع إجبارياً على كلِّ الناس، وإن كانوا قادرين واجدين، وهذا يوجد نوعاً من المساوة الإلزامية في الحرمان، ويزرع في أنفس الموسرين والواجبين الإحساس بآلام الفقراء والمحرومين.
كان عمر بن عبدالعزيز لايشبع وقت خلافته فيقال له : يا أمير المؤمنين: لما لا تشبع؟ فيقول: حتى لا أنسى الجوعى.
وفي هذا التذكير العملي الذي يدوم شهرًا، ما يدعو إلى التَّراحم والمواساة والتعاطف بين الأفراد والطبقات بعضهم ببعض.
وكان النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيه أجود بالخير من الريح المرسلة .
ومن أجل هذا كان من أفضل ما يثاب عليه المؤمن: تفطير الصائم، وفي الحديث:(من فطر صائماً كان لهُ مثل أجره، غير أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا)”رواه أحمد”.
- الثمرة الغالية التقوي: والمُتقي عبداً أطاع ربه ومولاهُ، وابتعد عن مُساخطهِ وما لا يرضاه، سعى في تحقيقها، وجاهد في تحصيلها، بل إنَّ التقوي بمنطوق الآية هي الثمرة الأساسية من الصيام (لعلكم تتقون ).
وما اتقى الله من ترك لنفسه العنان ، ولم يلجمها بلجام التقوى، ولذا قال ــ صلى الله عليه وسلم ــ:( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس له حاجة أن يدع طعامه وشرابه)”رواه البخاري”.
“وربّ صائم ليس لهُ من صيامه إلّا الجوع والعطش، وربَّ قائم ليس لهُ من قيامه إلَّا السّهر”.
عندما تتأثر القلوب بالصيام ترى الألسنة قد كفَّت عن الحرام، والأبصار قد غضت عن المُحرّمات والأيدي قد حفظت عن الآثام .
كما أنَّ الصائم يتدرب على الإخلاص في رمضان، ولذا قيل: أعظم الأعمال التي يظهر فيها الإخلاص الصيام .
لأن الصائم يخلو وحده ولا يراه أحد، ومع ذلك لا تجرؤ نفسهُ على الطعام والشراب لعلمه بنظر الله عليه ومراقبته لربه جل وعلا، وهذه هي التقوى بأجلى صورها بأن تقدر على الحرام، وتتركهُ لعلمك أن الله يراك .
والحق أن صيام رمضان مدرسة متميزة، يفتحها الإسلام كلّ عام، للتَّربية العملية على أعظم القيم، وأرفع المعاني، فمن اغتنمها وتعرَّض لنفحات ربه فيها، فأحسن الصيام كما أمره الله، ثمَّ أحسن القيام كما شرعه رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقد نجح في الامتحان، وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة، مبارك الصفقة، وأيُّ ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟.
روى أبو هريرة عن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ:(من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر لهُ ما تقدَّم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر لهُ ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.