اقرأ في هذا المقال
الأمة الإسلامية آخر الأمم، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعتها أكمل الشرائع وأفضلها؛ لأنّ مصدرها الأساسي هو الوحي الإلهي وكان الوحي بشقيه: المعجز المتعبد بتلاوته “القرآن الكريم”، وغير المعجز وغير المتعبد بتلاوته “السنة النبوية”، ينقل عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن المخالفات الذي لا يقر على خطأ، ولكن هذا المصدر (الوحي) انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحددت نصوص الوحي القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا يستطيع أحد أن يزيد فيها شيئاً، وتكفل الله بحفظ كتابه قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}صدق الله العظيم، وقام علماء الأمّة بتدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزوا بين المقبول المحتج به، وبين غير المقبول الذي لا يؤخذ منه حكم شرعي.
والمستجدات والمستحدثات لا تنتهي ما دامت الحياة مستمرة متجددة على هذا الكوكب، ولا بد من معرفة أحكام الحوادث والقضايا الجديدة، فكان أمام علماء الأمة بتوجيهات من القرآن الكريم وإرشادات من السنة النبوية أن يبذلوا الجهد “أي يجتهدوا”؛ لمعرفة الحكم الشرعي لما استجد من قضايا وحوادث، فإنّ اجتهدوا مجتمعين واجتمعت آراؤهم على حكم واحد كان إجماعاً، وهذا ما نفصل القول فيه.
ما هو الإجماع؟
عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ” أي: لم يصمم على الصوم من الليل، أي: لم يبيت نيته من الليل، فأنّ الإجماع يوجد على معنيين في اللغة:التصميم والعزم ، ويقال: أجمع فلان على الأمر، بمعنى عزم عليه وصمم. ومنه أيضاً في حديث عبدالرحمن بن كعب بن مالك “..أجمعت بنو النضير بالغدر..” والمعنى اللغوي الثاني للإجماع هو: الاتفاق: يقال أجمع القوم على الحرب أو السلم أي اتفقوا عليه، ومن هذا المعنى قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}صدق الله العظيم، أي: اتفِقوا على أمر واحد مع شركائكم الذين يناصرونكم في الملذات، والإجماع في الاصطلاح -شرعاً-: هو اتفاق المجتهدين من الأمّة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي.
أتفاق المجتهدين في الإجماع:
إن للفقية صفاةٍ كثيرٌ منها من توفرت فيه موهبة استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فلا بد من اتفاق علماء الشريعة الذين بلغوا درجة الاجتهاد، ولا عبرة بمخالفة غيرهم، ولو كانوا علماء في علوم أخرى كاللغة والطب والفلك.. وغيرها، ولو خالف واحد من المجتهدين لم ينعقد الإجماع، من الأمة الإسلامية: لأنّ الإجماع يكون على قضايا الحلال والحرام من الأحكام الشرعية، فلا عبرة بأقوال غير المسلمين، ولو كانوا على اطلاع في علوم الإسلام؛ لأنّ القضية تشريع في الدين، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فلا ينعقد الإجماع وفي حياة النبي لأنّه عليه الصلاة والسلام مصدر التشريع، فإن خالف اتفاق الصحابة، فلا يعتد باتفاقهم عند مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا وافقهم الرسول صلى الله عليه وسلم على اتفاقهم كان ذلك سنة تقريرية، في عصر من العصور: سواء كان هذا الاتفاق في عصر الصحابة أم من بعدهم ولو في عصرنا الحاضر.
حجية الإجماع:
أدلة حجيته من القرآن الكريم:
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً }صدق الله العظيم، ووجه دلالة الآية على حجية الإجماع: أن الله تعالى توعد على مخالفة سبيل المؤمنين بالمصير إلى جهنم، فكان اتباع سبيلهم هو الحق الواجب الاتباع، ومخالفتهم حرام يجب اجتنابه.
أدلة حجيته من السنة النبوية:
قوله صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ” ومعنى ذلك أنّ الأمّة معصومة عن الوقوع في الضلالة أو الخطأ، وأن العصمة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته انتقلت بعد وفاته إلى الأمة، وهذا تكريم لرسول الله في أمته أن لا تضيع معالم الهدى الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
دلالة المعقول على حجية الإجماع:
فإنّ هذه الأمّة أمةٌ كريمةٌ على الله تعالى، وقد جاء الثناء عليها في آيات الذكر الحكيم كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..}، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..}صدق الله العظيم، والعقل يستبعد أن يتفق علماؤها المجتهدون على خطأ من غير أن ينقل ولو عن واحد منهم استنكار أو مخالفة لهذا الخطأ، بل يحتم العقل أنّ هذه الأمة معصومة من هذا الخطأ أو الضلالة.
أنواع الإجماع:
الإجماع الصريح:
هو أن يطرح الفقهاء آراؤهم صراحة في المسألة أو القضية المطروحة، سواء أكانوا مجتمعين في مكان واحد، أم تلقيت آراؤهم فُرادى، وبعد جمعها والاطلاع عليها من قبل الفئة التي قامت باستطلاع الآراء وجدوها متطابقة، أو أن فقيهاً أو مجموعة من الفقهاء قالوا رأياً ثم أبلغ به الآخرون، فكلهم وافقوا على هذا الرأي صراحة، كل ذلك من صور الإجماع الصريح، وهذا النوع من الإجماع حجة قطعية لا يجوز مخالفتها ولا نقضها.
الإجماع السكوتي:
هو أن يطرح أحد الفقهاء أو مجموعة من الفقهاء رأياً، ثم يعمم هذا الرأي على الآخرين، فيسكتوا عنه فلم يوافقوا عليه صراحة، ولم يعارضوه صراحة.. مع عدم وجود مانع من إبداء الرأي حوله، وأن يتركوا مدّة كافية لدراسة الرأي المقترح، وتقليب وجهات النظر حوله، وأن لا يكون هنالك ما يجعل المجتهد يمتنع عن التصريح برأيه، من خوف من سلطة جائرة، أو رهبة من أحد المتنفذين أو غير ذلك؛ واختلف العلماء في حجية هذا النوع من الإجماع، فذهب أكثر العلماء أنه حجة قطعية وهو كالإجماع الصريح، وإن كان أقل قوة من الإجماع الصريح، وذهب آخرون إلى أنّه ليس حجة، وذلك لأنّه لا ينسب إلى ساكت قول، كما أن السكوت لا يمكن حمله جزماً على الموافقة.. والراجح أن الإجماع السكوتي حجة، لأنّ الأمّة لن تدعم من يجهر بالحق إذا رأوا أنّ ما اتفق عليه أمر لا يقره الشرع.
مستند الإجماع:
إنّ من الشيء المؤكد أنّ الإجماع لابد له من مستند يستند إليه المجمعون، سواء من: القرآن أو السنة أو قواعد الشريعة العامة أو القياس أو المصلحة العامة.. ولكننا غير مطالبين بالبحث عن مستندهم؛ لأنّ الإجماع بحد ذاته أصبح حجة شرعية لا يجوز مخالفته؛ وفائدة الإجماع على ما ورد في القرآن أنه يجعله قطعي الدلالة؛ وما ورد في السنة يرتفع بالإجماع عليه إلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، لذا نجد الفقهاء يقولون في الأحكام الفقهية: إنّه ثبت بالقرآن والسنة وعليه الإجماع.
أمثلة على الإجماع:
- قال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }صدق الله العظيم، أجمع العلماء على حرمة نكاح الجدات وإن علون؛ لأنهنَّ تدخلن تحت مسمى الأمهات.
- قال تعالى:{وَبَنَاتُكُمْ }صدق الله العظيم، أجمع العلماء على حرمة نكاح بنات الأولاد مهما نزلن لدخولهن تحت مسمى البنات.
- قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ… }صدق الله العظيم، أجمع العلماء على إنزال أولاد الابن منزلة الأولاد الصلبيين عند فقدهم في الميراث، لأنّهم يدخلون تحت مسمى الأولاد.