الكفارة في القتل العمد وشبهه:
وهل تجب الكفارة في القتل العمد الذي هو نقيض الخطأ، هناك رأيان في هذه المسألة وهما:
الرأي الأول: للحنفية والحنابلة وابن المنذر والثوري وأبي ثور”أنه لا تجب فيه الكفارة”. واستدلوا على هذا القول بالآتي:
– الكتاب: وهو قول الله تعالى:”وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ” النساء:92. إلى أن قال:”وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا” النساء:93. ووجه الدلالة هنا، إن الله سبحانه وتعالى نص في كتابه على نوعي القتل وهما”الخطأ والعمد” كما نص على الجزاء الواجب في كل منهما، فقد نص على أن جزاء القتل خطأ: الدية والكفارة ولا ثالث لهما، وقد نص على جزاء القتل القتل بعد القصاص: الدخول في النيران وطول المكث فيها وإعداد العذاب ولا شيء غير ذلك لا بطريق العبارة ولا بطريق الإشارة، ولو قلنا بوجوب الكفارة في القتل العمد، لكان زيادة على النص وخروجاً عنه وعدم اكتفاء بالوعيد الذي أعده الله للقاتل عمداً.
– ومن المعقول: أن التحرير أو الصوم في الخطأ إنما وجب شكراً للنعمة حيث سلم له أعز الأشياء إليه في الدنيا وهي الحياة مع جواز المؤاخذة في القصاص وكذلك ارتفعت عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز المؤاخذة وهذا لم يوجد في العمد فيقدر إيجاب الكفارة وجب شكراً لحق التوبة عن القتل بطريق الخطأ، والحق بالتوبة الحقيقية لخفة الذنب بسبب الخطأ والذنب هاهنا في العمد أعظم فلا يصلح لتحرير توبة.
الرأي الثاني: للمالكية والشافعية: وهو القائلين بوجوب الكفارة في القتل العمد، وإن كان المالكية يرون أن الكفارة في القتل الخطأ تكون على سبيل الوجوب، وفي العمد على سبيل الندب بشرط أن يكون القاتل عمداً قد عفى عنه ببدل أو بغيره. وقد استدل المالكية على قولهم بالندب في كفارة العمد: أن تركها في الخطأ يوجب العقاب وفعلها يوجب بالثواب بخلاف العمد فإن فعلها يحقق الثواب وتركها لا يستوجب العقاب.
أما الشافعية القائلين بوجوب الكفارة في العمد كالخطأ استدلوا بما يلي:
– أنه إذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ مع عدم الإثم، فلأن تجب في العمد أولى.
والترجيح في هذه الأقوال: نرى أن الراجح هو ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة من القول بعدم الكفارة في القتل العمد وذلك لما يلي:
– إن النص القرآني الذي ذكر جزاء القتل خطأ وعمداً ذكر في القتل الخطأ الكفارة وفي العمد لم يذكرها والأخذ بالنص واجب ولا اجتهاد مع النص.
– إن القتل العمد كبيرة محضة والكفارة فيها معنى العبادة؛ لانها تستر الإثم وترفع المؤاخذة وهذا يتنافى مع الكبيرة المحضة.
– وكما إن بعض القائلين بالكفارة في العمد اشترطوا أن يعفي عن القاتل، فهذا أمر غريب فكانهم يقولون بالوجوب وعدم الوجوب في وقتٍ واحد وهو أن القاتل إذا اقتص منه لا تجب وإذا عَفى عنه وجبت.
– إن القتل عمداً يمثل حقاً للعبد أو يغلب فيه حق العبد وحق العبد لا يمكن أن يستثني من الحساب إلا بعفو المقتول دون الكفارة.
– قول النبي عليه الصلاة والسلام:”الإنسان بنيان الله في أرضه، ملعونٌ من هدمه” والقاتلُ عمداً هادِمأ للمقتول، فهو ملعون والملعون مطرودٌ من رحمة الله، والكفارة تستر الذنب وترفع الإثم وتُعيد الكفر إلى الرحمة فيكون حينئذ مطرودٌ بنص الحديث غير مطرود بإيجاب الكفارة وهذا تناقض غير ممكن.
هل تجوز الكفارة في شبه العمد:
لقد قال الشافعية والحنابلة ومن يرى القول يشبه العمد من المالكية، وعند الأحناف الذين يرون إلحاق شبه العمد الخطأ يقولون”بوجوب الكفارة في شبه العمد”. واستدلوا على هذا القول بما يلي:
– بما قاله الكرخي من الحنفية: بأن الكفارة إنما وجبت في الخطأ، أما لحق الشكر أو لحق التوبة والداعي إلى الشكر والتوبة في شبه العمد موجود، وهو سلامة البدن وكون الفعل جناية فيها نوع خفة لشبهةٍ عدم القصد، فأمكن أن يجعل التحرير فيه توبة والصيام فيه تقرباً.
– أنه إذا وجبت الكفارة في القتل في القتل الخطأ مع عدم الإثم، فلأن تجب في شبه العمد من باب أولى.
وعند الأحناف: رأيٌ يقول: أنه لا تجب الكفارة في شبه العمد وألحقوهُ بالعَمد المحض في عدم وجوب الكفارة. واستدلوا على هذا الرأي: بأن شبه العمد جنايةً متغلظةً ألا ترى أن المؤاخذة فيها ثابتة بخلاف الخطأ فلا يصلح التحرير توبة بها كما في العمد. والراجح هنا من هذه الآراء هو الرأي القائل بوجوب الكفارة في شبه العمد وسبب ذلك هو ما يلي:
– أن شبه العمد هو نوع مستقل عن العمد له حكم مستقل عنه ولهذا الاستقلال تجب فيه الكفارة.
– جعله إلى الخطأ أقرب لانعدام المؤاخذة فيه بالقصاص كما في العمد وقربه من الخطأ يضفي عليه بعض أحكامه ومن هذه الأحكام إيجاب الكفارة.
– أن الكفارة فيها معنى العبادة وشبه العمد ليس كبيرة محضاً كالعمدِ لانتفاء شبه القصد فيه لذلك تجب الكفارة.