اقرأ في هذا المقال
قصة أصحاب الأخدود:
إن قصة أصحاب الأخدود هي من القصص التي رواها النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح مسلم على أصحابه من أجل تثبيتهم على دين التوحيد وطاعة الله تعالى.
كان هناك ملك عنده ساحر ويخدع الناس به، مثلما كان يفعل فرعون حينما كان يقول للناس أنا ربكم الأعلى، فهذا الملك كان يأمر الساحر الذي عنده بفعل ببعض الأعمال حتى يظن الناس أن هذا صحيح وأنه ربهم ليصدقوه، فلما كبر هذا الساحر وأيقن أنه سيموت قال للملك: ابعث لي غلامًا أعلمه فأرسل له الملك غلامًا لم يكن كسائر الغلمان، فقد أختاره أكثر ذكاءً ونباهة وفطنة من بين غلمان القوم وبعثه للساحر حتى يعلمه الساحر.
إن سبب اختياره للغلام حتى يعلمه لكي يبدأ معه تعاليم السحر منذ صغره وحتى يصير شابًا ويكبر ويصير رجلاً أي أن له مستقبل بالسحر. فلما وجد الملك ذلك الغلام أرسله للساحر حتى يتعلم السحر عنده، وبدأ الغلام يأتي كل يوم للساحر وهو في طريقه إليه، وإذ به يرى رجلًا غريب الكلام وجالس في صومعته ولا يخرج مع الناس ولا يختلط معهم ويتحدث بكلام غريب ولديه حركات غريبة.
وفي يومٍ دخل ذلك الغلام إلى الرجل الغريب، فاستأذن منه وجلس معه وسأله الغلام: من أنت، قال له: أنا راهب أتعبد الله، فقال الغلام: أتعني الملك، قال: لا، أنا أعبد رب الملك وربك ورب الناس جميعًا، فقال له: من تقصد بذلك، قال الله، فأخذ الغلام الذكي يسأل ويستمع إلى كلام الراهب فأعجبه واستأنس به ولأن الغلام كان ذكيًا ونبيهاً فصار يحب كلام ذلك الرجل.
فصار الغلام يجلس بعض الوقت عند الرجل الراهب وباقي الوقت يذهب فيه إلى الساحر، فلما سأله الساحر لما تتأخر فلم يجيب عليه، فبدأ الساحر يضربه ضربًا مبرحًا، فرجع الغلام من عند الساحر وذهب يجلس مع الرجل الراهب لتهدأ نفسه ويرتاح من كلامه، ولكن الله تعالى أراد لهذا الغلام أمرًا، فرجع الغلام عند الراهب يشتكي له من الساحر أنه يضربه وأن أهله أيضًا يضربونه، والغلام يتعلم الدين، فقال له الراهب: إذا سألك الساحر لما تأخرت فقل له حبسني أهلي، وإذا سألك الساحر لم تأخرت قل لهم: حبسني الساحر.
وفي ذات يوم عندما عاد الغلام إلى البيت رأى حيوانًا غريبًا جاء إلى القرية وأفزع الناس وجلس في وسط الطريق، فخاف الناس منها ولم يستطع أحد أن يقترب؛ لأنه لم يكن معروف ما هذا الحيوان، فنظر الغلام الصغير إلى تلك الدابة، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر ففرج على الناس هذه الدابة وأبعدها عنهم واكفها شرهم واقتلها، فما دعا هذا الغلام بهذا الدعاء ورمى عليها حجراً حتى ماتت، وبذلك قذف الله في قلب الغلام الإيمان واليقين.
وإذ بالناس تتعجب من فعل ذلك الغلام، ولكن اكتشف الغلام بأن أمر الراهب أحق من أمر الساحر، وهذا الأمر أصبح واضحًا بالنسبة لهذا الغلام؛ لأن اكتشف بأن الراهب حياته مبنية على الحق أما الساحر فحياته مبنة على الشر، فقال تعالى: “وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ” طه:69.
فذهب الغلام إلى الراهب وقصّ عليه ما حدث،فقال له: هل كلامك صحيح فأجابه نعم، فقال له الراهب: إنك أنت اليوم خير مني وأحسن مني، ولكنك يا بني ستُبتلى، فإذا أبتليت فلا تدلّ عليّ أحد، فوافق الغلام على ذلك إذا أعانه الله وأنه سيكتم أمر الراهب. فخرج الغلام وأجرى الله تعالى على يد هذا الغلام كرامات قد لا تحصل على يد غيره من البشر في ذلك الزمان.
الكرامات التي حصلت على يد هذا الغلام وكيف أبتلي:
لقد أجرى الله تعالى على يد هذا الغلام كرامات فكان يُبرئ الأكمه والأبرص أي الأعمى، فإذا كان أعمى وهو صغير فإنه يمسح على وجهه فيشفيه بإذن الله، والأبرص كذلك كان يمسح على جلده فيشفيه الله تعالى والمريض يدعوا له فيشفيه الله بأذنه، فوصل هذا الخبر إلى جليس الملك وهو من المقربين إليه، وكان أعمى البصر، فسمعوا أن هناك غلام يمسح على وجه الإنسان فيعيد له بصره، فقالوا آتوني بهذا الغلام، فقال له الرجل: لقد سمعت أنك تشفي وترجع البصر لصاحبه، فإذا فعلت وأرجعت إلي بصري، فليس هناك أحد أجمع لك من الأموال مني، أي أنني سأعطيك ما تريد من المال والذهب والفضة، فالغلام في نفسه يعلم أنه لا يريد مال ولكنه يريد أن يدع الناس أن يؤمنوا بالله تعالى.
فلما جاء الغلام قال للرجل: أنا لا أشفي ولا أرجع بصر أحدٍ إليه، فقال له الرجل: الناس يقولون أنك تشفي، فقال الغلام: الله وحده هو الذي يشفي، أنا أدعوه فيشفيك، فإذا شئت آمن به وأنا أدعوه لك وهو الذي يشفيك، فسأله الرجل: من هو الله، فعرّفه من هو الله، فصار الغلام أشجع من الراهب، لأن فيه قوة إيمان وحماس لذلك الدين، وصار يبلغ به الناس ولم يهمه أحد، فآمن جليس الملك بالله تعالى وكفر بالملك، فمسح الغلام على وجه الرجل ودعا الله فإذا به يبصر وإذا به يزاد إيمانًا وأنه آمن بدعاء ذلك الغلام وأن له رب يستجيب له.
لقد بقي الرجل على وعده للغلام وآمن بالله، وفي يوم جاء الملك لجليسه الأعمى ليزوره ونظر إليه، فقال له: هل أنت تبصر، فأجابه نعم، ألم تكن أعمى، فأجابه نعم، ولكنني أبصرت، فسأله الملك ومن أعاد إليك بصرك، أجابه الله ربي وربك ورب العالمين، وعند سماع الملك بذلك أمر جنوده أن يدخلوه السجن ويضربوه وأن يعذبوه، وسأله من كان وراء إرجاع بصرك، فقال: الغلام واسمه كذا كذا، فطلب الملك من جنوده أن يجلبوا له الغلام، فجاءوا به، وسأله أيها الغلام: أيها الغلام ألك رب غيري، فأجابه، نعم أيها الملك.
فأمر الملك جنوده أن يجلدوا ذلك الغلام ويُضرب، فصبر الغلام، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” آل عمران:200. فصبر الغلام على التعذيب ولكنهم من شدة ما عذبوه قالوا له: أخبرنا من الذي علمك ذلك،فأخبرهم عن الراهب الذي علمهم الدين، فأمر الملك أن يجلبوا الراهب الذي علمهم الدين، فصار الملك يعذب الراهب عذابًا ولم يتراجع عن دينه أبدًا حتى أن الملك أمر أن يُشق الراهب نصفين، فجاءوا بالمنشار وشقوا الراهب نصفين أمام الجليس وأمام الغلام الذي علمه، فقال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ – وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”العنكبوت:2-3.
فجاءوا بجليس الملك ونشروا رأسه أيضًا لأنه لم يرجع عن دينه، فبقي الآن دور الغلام، فسأله الملك: هل ستؤمن بي أيها الغلام، فقال: لا: فقال له الملك: سأقتلك، فنادى الجنود ونادى الحرس فلم يريد ليقتله؛ لأن له قيمة عند الملك، قال لجنوده إذهبوا به إلى أعلى قمة جبل عندكم وخيروه، إما أن يستجيب لكم ويتراجع عن دينه وإلا فألقوه من أعلى الجبل.
فتناقلت الناس الخبر وعلمت بما يريد أن يفعله الملك والغلام سيرمى من أعلى الجبل لكي يرمى في الوادي السحيق وحمل الغلام إلى الوادي وكان يمشي بكل قوة وثبات وسألوه هل سترجع عن دينك، فقال: لا، ورفع يديه إلى السماء وقال: “اللهم اكفنيهم بما شئت” وإذ بالجبل يهتز وإذ بالجنود يتمسكون ببعضهم حتى لا يسقطوا عنه، فتساقط الناس جميعهم من أعلى الجبل واحدًا تلو الآخر حتى ماتوا جميعا، لكن لم يبقى على الجبل سوى الغلام.
وعندما نجى هذا الغلام عاد إلى الملك بنفسه وتناقل الناس الخبر، فلما وصل الغلام للقصر فزع الملك وسأله، كيف جئت؟ وأين أصحابك أين الجنود وكيف عدت، فقال الغلام: لقد كفانيهم الله عز وجل الله نصرني عليهم، فقال تعالى: “إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” آل عمران:160. فأمر الملك الجنود مرة أخرى أن يمسكوه وأن يضعوه في قفص وارموه في وسط البحر حتى يغرق.
فأخذوه رموه في وسط البحر، وقبل رميه قال: “اللهم اكفيهم بما شئت” وبعدها جاءت الريح والأمواج وإذا بالسفينة تهتز من شدة الرياح وبدأ كل من معه في السفينة يسقط في البحر واحد تلو الآخر حتى ابتلعهم البحر ولم يبقى إلا الغلام.
ماذا حصل بين الغلام والملك؟
لما دخل الغلام على الملك مرةً أخرى فزع الملك وسألهم أين أصحابك فقال: “كفانيهم الله تعالى”، فجن جنون الملك فخاف الملك من هذا الغلام وسأله هل تريد قتلي، قال: نعم أريد قتلك، قال: هل أدلك على شيء إذا فعلته تقتلني به، قال الغلام، نعم دلني، فقال: لن تقتلني إلا بعد ما تفعل ما أمرك به، قال له: اجمع الناس على صعيد واحد، ثم اصلبني على جذع شجرة وبعدها خذ سهمًا من أسهمي وقل للناس وهم يسمعون بسم الله رب الغلام ثم ارمني بالسهم إذا فعلت ذلك فإنك قاتلي.
فجمع الملك الناس على صعيد واحد وربط الغلام بجذع الشجرة والحشد من الناس ينظرون من جنود وحرس ووزراء وغيرهم والكل ينظر؛ لأنهم أرادوا أن يعرفوا من هو ربهم هو رب الغلام أم رب الملك، فأخذ الملك السهم من كنانتي وصار يرمي به الغلام ولم يصبه؛ لأنه لم يُسمي مثلما قيل له، فصار السهم يذهب عن يمين وشمال، فلما قال الملك: بسم الله رب الغلام، وإذا بالسهم يقع على وجهه فوضع الغلام يده على وجهه وسقط رأسه وفاضت روحه إلى الله، فقال تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” فمات الغلام وفرح الملك، فجاءه أحد الوزراء يقول له: أيها الملك لا تفرح؛ لأن الناس جميعًا آمنوا برب الغلام وصارت الناس تصرخ وتقول: لقد آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، لا إله إلا رب الغلام.
فغضب الملك مرةً أخرى، لأن القرية كلها صارت مؤمنة فزال ملك الملك وضاعت هيبة الملك وذهبت أحلامه، فمات الغلام لأجل هدف فحقق ذلك الهدف وانتشرت دعوته وبدمائه روى أمة بأكملها، فقال الملك: احفروا لهم الأخاديد وخدوها لهم وشقوا لهم الأراضي ثم اشعلوا فيها النيران وكل من لا يرجع عن دينه اقذفوه في النار واحرقوه فيها، فقال تعالى: “قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ – النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ – إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ – وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ – وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ – الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” البروج:1-6.