قصة بلعام بن باعوراء:
هو رجل عالم من علماء بني إسرائيل، كان يعيش في قومه حاله مثل حال سائر العلماء الآخرين، لكن لم ينفعه العلم الذي كان يكنزه في صدره ولم يستفد منه، فقد كان فيه دَخن وكان فيه حبٌ للسمعة والشهرة والرياء، فمن سمّع فقد سمّع الله به، ومن قام بالرياء فقد راءى الله به ومن عمل عملاً أشرك فيه مع غير الله تركته هو وشركه، ومن تعلّم العلم ليجادل العلماء ويُمارِ فيه السفهاء فموعده النار.
إن هذا العلم لم يستفد منه صاحبه، فقد تعلم بلعام علمًا قويًا ومُتمكن ولكن يا للأسف بأنه لم ينتفع به ولم يستطع بأن ينفع غيره به أيضًا؛ لأن قلبه مريض وفاسد، فلا ينفع العلم قلبًا فاسدًا، فقد تعلم العلم وكان بباله أن ترتفع مكانته بين الناس ولكن لم يرتفع، فقد كان يقرأ حتى يُقال عنه قارئ وقد قيل بأن يؤخذ إلى النار فهو أول من تُسعّر بهم النار.
لقد أراد أن يرتفع عند قومه بالعلم وأن يكون له المنصب والجاه والكبرياء ولكن لم يحظى بذلك كله، فجاءه قومه يومًا من الأيام وقد ضعُف دينهم وانتكسوا عنه واهتزت أفكارهم تجاه دينهم، وأرادوا أن يحاربوا نبيًا من أنبياء الله. فبعضهم قال أنه موسى عليه السلام وقال البعض أنه أرادوا أن يحاربوا غيره، فقد قتل بني إسرائيل كثيرًا من الأنبياء، فقال تعالى: “أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ” البقرة:87.
حينما عزموا وأرادوا أن يحاربوا هذا النبي خافوا في بداية الأمر، فذهبوا إلى بلعام بن باعوراء وقالوا له: يا بلعام؟ إننا نريد منك طلبًا، أجابهم بلعام وما هو، قالوا له: نريد منك أن تدعو على نبي الله، فقال لهم بلعام: الويل لكم أتريدون أن أدعو على نبيّ الله، ولما تريدون ذلك، قالوا له: لأننا نريد أن نحاربه ونريد منك أن تكون أنت بمقابله، فادعو الله عليه، لقد تردد بلعام في بداية الأمر وخاف وقلق ولم يقتنع بقولهم، ولكن أغروه بالمال وبالرئاسة والجاه والمنصب وهذا ما كان يطمح إليه بلعام، فلم يُرد الله تعالى ولا يُرد الجنة، فقد أراد بعلمه الملذات وأراد الدنيا وما فيها من شهوات ومغريات، فكم من عالم حافظ للقرآن وكم من مقاتلٍ ما أراد به وجه الله تعالى.
اقتناع بلعام بن باعوراء برأي بني إسرائيل:
وعندما اقتنع بلعام بكلامهم رفع يديه إلى السماء يدعو الله على ذلك النبي (غير معروف سواء كان موسى عليه السلام أو غيره من الأنبياء)، فيا ويله من جاهلٍ يا ويله من رجلٍ أعمى كان ملمًا بجميع أنواع العلم والآيات وخسرها كلها، فالله تعالى لم يستجب لدعائه فلما خسر الآخرة صار يجمع الأموال من الدنيا وصار يأخذها من قومه ويخدعهم بكلامه، فيقول الله تعالى: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ – وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ” الأعراف:175- 176.
ومعنى السلخ أيّ الشيء الذي يُبدل جلده بمعنى ينسلخ، مثل الأفعى التي ينسلخ عنها جلدها ويصبح لها جلد جديد، وهذا كان هو شبه بلعام عندما خرج عن دينه إلى أمور الدنيا؛ لأن الشيطان أغواه وسلخه عن علمه وفقههِ فقد كان عالمًا يُهتدى به.
لقد كان أكثر علماء بني إسرائيل يفتنون بالمال ويُشترون به، فقد كان الشيطان يتربص للعلماء فقد انتظر الشيطان متى يُفتن هذا العالم فقد ضيعوا دينهم وأفتوا لمن يدفع لهم، فقط أطلق عليهم باسم علماء اليهود، فقال تعالى: “وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ” البقرة:41.
إنّ بلعام لو استمر على علمه وفهمه وعمل بما تعلمه لرفعه الله إلى مكانة عظيمة كما رفع الله غيره من الحكماء والعلماء لا بل والأنبياء والمرسلين، ولكن اشترى هذا العالم الدنيا الفانية، فقد صار إلهه هواه ومعبوده ديناره ودرهمه وشهوته تقوده، فلهذا قال عنه الله: هذا رجع إلى الأرض والتراب وصار الذي يُسيره ويقوده ليس شرع الله وإنما هواه، فالله تعالى ضرب به مثلاً، فقال تعالى: “فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الأعراف:176.
فقد طبق الله تعالى هذا المثل على العلماء الذين إذا أراد الله لرفعهم بعلمهم الذي في صدورهم إلى السماء، ولكن بعضهم باعوا دينهم من أجل مغيرات وملذات الدنيا، فمن أهم متطلبات وشروط العلم الصحيح أن يكون خالصًا لله تعالى وللعلم الذي يتعلمه، ولكن بلعام استبدل علمه ودينه وآخرته بدنياه التي لن تنفعه والتي لن تدوم له على مدار الحياة.