مواطن الفتن ومنبع خروجها:
أولاً: عن أبنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُشير إلى المشرق فقال: “ها إنّ الفتنة ها هُنا، إنّ الفتنة ها هنا من حيثُ يطلعُ قرن الشيطان”. أخرجه البخاري.
عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغير وأركبكم للكبيرة سمعتُ أبي عبد الله بن عُمر يقولُ: سمعتُ أبي عبد الله بن عمر يقول:” إنّ الفتنة تجيءُ من ها هُنا وأومأَ بيدهِ نحو المشرق من حيثُ يطلع قرنا الشيطان وأنتم يَضربُ بعضكم رِقاب بعض وإنما قتَل موسى الذي قتلَ من آلِ فرعون فقال الله عزّ وجل له” وقلتَ نفساً فنجيناكَ من الغمِ وفتناكَ فتونا”. أخرجه مسلم.
معنى كلمة قرنا الشيطان: وهي مثنى قرن، وقد جاء في بعض الأحاديث مفرداً، وفي بعضها جذل الشيطان، وقد اختلف في المراد به على أقاويلَ شتى، ويطمئن قلبي إلى أن المراد به حبائل الشيطان التي يُصطادُ بها قلوب الناس، ويكون المراد بالحبائل عنا هو أعوان الشيطان الذين يرتَكزوا أكثرهم من جهة الشرق عموماً، والذي حملني على هذا المعنى أن من معاني القرن ما يفتل منه الحبل أو الشعر، ومن معانيه حبائل الصياد التي يفتلها ليصطاد بها، وبالتالي يكون المقصود بقرني الشيطان شيعته أو جمعه من الكفار الذين يُغريهم بإضلالِ الناس.
شرح الحديث:
إن هذا الحديث فيه إشارة واضحة إلى أنّ منبع الفتن المضلة هي الشرق وعلى وجه الخصوص العراق، والناظر في تاريخ الأمة يرى أن أكثر فتن المسلمين إضافةً إلى فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه كان منبعها من العراق، ثم انتشرت في باقي البلاد، وجهة الشرق على وجه الخصوص، بل المتتبع لتاريخ الفرق المارقةِ في الإسلام يجد أن منشأ أكثرها كان في العراق. أيضاً إن في الحديث إشارةً إلى استهانة أهل العراق بالدماء، ومنشأ استهانتهم تأويلاتِهم الفاسدة التي استباحوا فيها دماء بعضهم البعض.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكرَ النبي عليه الصلاة والسلام:”اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ قال: فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل، والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان”. رواه البخاري في صحيحه.
ثالثاً: عن أبي مسعود رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:” من ها هُنا جاءت الفِتنُ نحو المشرق والجفاء وغلظُ القلوب في الفدادينِ أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبَقر في ربيعةَ ومُضر”. أخرجه البخاري.
رابعاً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:” إنّ هذا الحيّ من مُضر لا تدعُ للهِ في الأرض عبداً صالحاً إلا فتنتهُ وأهلكتهُ حتى يُدركها اللهُ بجُنودٍ من عباده فيُذلّها حتى لا تمنع ذنب تلعةٍ”. أخرجه أحمد في مسند الأنصار.
شرح معنى العام للأحاديث المذكورة:
1. يتضح من الأحاديث السابقة بأن موطن الفتن وحبائل الشيطان وأنصاره هي جهة الشرق على وجه الخصوص، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن أكثر الفتن كانت من هذه الجهة، وما زالت هذه الجهة تتراً علينا بالفتن إلى أن يكون آخرها فتنةً الدّجال لعنة الله عليه.
2. ويلاحظ أيضاً من الأحاديث بأنها تُشير إلى البركة في ثلاثة مواطن وهي الحجاز والشام واليمن، وخصت الشام بأنها موطن الإيمان عند اشتداد الفتن ووقوعها.
3. لا تعني الأحاديث السابقة أن غير الشرق ، وأن تمكن الشيطان في إثارة الفتن فيها أكثر من غيرها، حيثُ يجد له أعواناً كُثر من شياطين الإنس فيها، وهم قُرون الشيطان.
4. ونلاحظ من حديثي حذيفة أنهما دلا على أنّ مضر ستكون مشعلاً من مشاعل الفتن بالأرض، وسيكون فيها، أو في إحياء منها من يلاحق المؤمنين إما بفتنتهم أو بقتلهم إلى أن يأتي أمرُ الله تعالى بإطفاء شُعلتهم وردِ كيدهم.
5. يُلحظ في حديث أبي مسعود أنه ربط بين الفتنة في جهة الشرق، وبين غلظة قلوب ربيعة ومضر، وانشغالهم في دنياهم على حساب دينهم، وكأن الحديث يُشير إلى أحد أهم أسباب إثارة الفتن، وهو الانشغال في الدنيا وتعظيمها وطلبها مقابل الإعراض عن الدين وتعاليمه، وكذلك قسوة القلوب وغلظها، وهذان الأمران كانا فتيل الفتن في بني إسرائيل ووقوده، وسيكُونانِ كذلك في أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
6. إن الأحاديث السابقة تُعتبرُ من أعلام نبوةِ محمد عليه الصلاة والسلام؛ حيثُ وقع ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قال.