الإصلاح والتهذيب:
يميل الإصلاح والتهذيب في الشريعة الإسلامية إلى جانب التخويف والردع والزجر، فلم تترك جانب الجاني نفسه فقط، بل عنيت به. ولا أعدو الحق إذا قلت إنّ تأديب الجاني وإصلاحه وهدايتهُ وتوبته قد وضعت في المحل الأول، حتى يكون ابتعاد الناس عن الجريمة ناتجاً عن وازع ديني ودافعٌ نفسي، ليس مبعثهُ الخوف من العقاب، بل مبعثهُ الرغبة عن الجريمة، والعزوف عنها، والابتعاد عن مجالها، وذلك ابتغاء تحصيل رضا الله ورضا النفس، باعتبار أن الجرائم من المعاصي التي هي حمى الله من دخل فيه فقد ضل سواء السبيل، وخالف أوامر الله، فحقَ عليه عذابه.
وهذا الوازع الديني هو خيرُ وسيلة لمحاربة الإجرام؛ لأن الجاني قبل أن يرتكب جريمة سيفكر أن الله يراه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن العقاب سيلحقه سواء افتضح أمره أم لم يُفضح، وسواء أدخل في حوزة الإمام فنال جزاءه في الدنيا أم لم يدخل وأفلت من عقاب الدنيا؛ لأن عذاب الله سوف لا يجد له منه نجاة، وهو إذا فكر في ذلك فإنه مانعه، ولا شك في ارتكاب الجريمة، وهذا هو كل ما يصبو إليه العلماء ويجدّون في السير إليه، وأن أمامهم لبلوغ هذه الغاية طريقاً شاقاً طويلاً.
وممّا يدل على هذا الاتجاه في الشريعة الإسلامية، أن الإجماع منعقد على أن التعزير عقوبة، الغرض منها التأديب والإصلاح؛ لأن بتأديب الجاني وإصلاحه تستقيم النفس، وتبتعد عن الجريمة، وفي ذلك صلاحٌ للجماعة وتقويم لبنتها.
أما الحبس، فسنرى أن الحبس غير محدد المدة، حدّه التوبة وصلاح حال الجاني، وبذلك يوجد عنه الوازع الذي يمنعه من الإجرام منعاً تلقائياً ذاتياً عن رغبةٍ ورضا.
ومن هذا المبدأ قول الفقهاء: إن التعزير شُرع للتطهير، فإن ذلك السبيل إلى إصلاح الجاني بتقويم نفسه وصقلها وغسلها من أدران الجريمة حتى تكون هذه النفس الطاهرة بمنجاةٍ عن محيط الإجرام وتدخل في عداد الأنفس النافعة للمجتمع.
فقد شرعت الشريعة الإسلامية التعزير من أجل الزجر والردع والإصلاح، وإنما قصدت بذلك إيجاد مجتمعٌ صالح، تسوده المحبة وتُرفع عنه البغضاء وأسباب الكراهية، ويُعرف فيه كل مواطن ما له وما عليه، ويُعرف فيه طريق الشر واضحاً فيجتنبُ عنه، وطريق الخير واضحاً فيتبعه، فلا يكون هناك مجالٌ للجريمة. وهذا الغرض البعيد هو من أهم الأغراض التي يتوقُ إليها المصلحون والعلماء. وهو واضح في أقوالٌ كثير من الفقهاء، فهم يقولون: إن التعزير محتاج إليه لدفع الفساد وإخلاء العالم منه وإزالة المنكر.