صفة الدجال بالشكل:
هناك وقفة عند المسيح الدّجال ووصفه بالشكل: وهي أنه يُشبه غلام يهودي يُدعي “صافٍ” والمعروف بابن الصياد، لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن المسيح الدّجال، وجد الصحابة أن هذا الوصف ينطبق على غلام يهودي يدعي” صافٍ” واسمهُ: عبد الله بن صياد” أو صائد المعروف بابن صياد، فأشكل أمره على الصحابة، وظنوا أنه الدّجال، بل أنه الدّجال، بل منهم من أقسم بذلك كجابرِ بن عبد الله رضي الله عنه.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد: الدّجال، قلت: تحلفُ بالله؟ قال: إني سمعتُ عمر يحلف على ذلك عند النبي عليه الصلاة والسلام فلم ينكره النبي عليه الصلاة والسلام.
وأخرج أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:” لأن أحلف بالله تسعاً ان ابن صياد هو الدّجال أحبّ إليّ من أن أحلف واحدة، قال: ولأن أحلف تسعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قُتل قتلاً، وأحب إليّ من ان أحلف واحدة، وذلك بأن الله اتخذه نبيّاً، وجعله شهيداً.
ولما تشكك الصحابة في أمر ابن الصياد، ذهب إليه النبي عليه الصلاة ليكشف حقيقته ويتبيّن حاله فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه:” أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان، عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن الصّياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن الصياد: تشهد أني رسول الله. فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه وقال: آمنت بالله وبرسله. فقال له: ما ترى. قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلط عليك الأمر. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني خبأت لك خبيئاً. فقال ابن صياد: هو الدخ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله”.
فوائد وتنبيهات عن الحديث:
هناك فوائد وبعض تنبيهات على هذا الحديث السابق ألا وهي:
1. في الحديث السابق أن ابن الصياد ادّعى النبوة، فكيف يدّعي هذا ويتركه النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقتله؟ والجواب على هذا السؤال: أنه كان بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين اليهود عهد في تلك الأيام.
2. قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: إن يكنهُ، فلن تُسلّط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله، ويدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان متحيراً في أمره، وأنه لم يوحَ له في أمره شيء، ويدل على هذا أيضاً أنه ذهب إليه مرةً أخرى خفيةً ليقف على حقيقتهُ. فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: “انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب، إلى النخل التي فيها ابن صياد، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئاً، قبل أن يراه ابن صياد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، يعني في قطيفة، له فيها رمزة أو زمرة، فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتقي بجذوع النخل. فقالت لابن صياد: يا صاف، وهو اسم ابن صياد، هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فثار ابن صياد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين”.رواه البخاري ومسلم.
3. والمقصود بالدخان، وهي الكلمة التي خَبئها النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، والمراد بها قوله تعالى:”فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ” الدخان: 10.
4. وكما اختلف الصحابة في شأن ابن الصياد، اختلف كذلك العلماء اختلافاً كثيراً في شأنه، فذهب الإمام الشوكاني وابن حجر والقرطبي والنووي، رحمهم الله:” أن ابن الصياد هو الدّجال”.
بينما ذهب الإمام البيهقي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير رحمهم الله إلى “أن ابن صياد ليس هو الدّجال”. لذلك قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: إن أمر ابن صياد قد أشكل على بعض الصحابة، فظنوه الدّجال، وتوقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام حتى تبيّن له فيما بعد أنه ليس هو الدّجال، وإنما هو من جنس الكُهّان أصحاب الأحوال الشيطانية، ولذلك كان يذهب ليختبره.
وقال ابن كثير أيضاً: كان ابن صياد من يهود المدينة، ولقبه عبد الله، ويُقال له”صاف” وله ولدٌ اسمه عمارة بن عبد الله، من سادات التابعين، روى عنه مالك وغيره، والصحيح: أن الدّجال غير ابن صياد، وأن ابن صياد كان دجالاً، ثم تاب فأظهر الإسلام. فالله يعلم ما في ضميره وسريرته.
ما الشيء الذي يؤكد أن ابن الصياد ليس هو الدّجال:
وممّا يؤكد على أن ابن الصياد ليس هو المسيح الدّجال، هي قصتهُ مع أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. يقول أبو سعيد الخدري:”خَرجنَا حجَّاجاً، أَو عماراً، ومعنَا ابنُ صائِد، قالَ: فَنَزَلنَا مَنزِلًا، فَتفَرق الناس وَبقِيتُ أَنا وهو، فَاستَوحَشتُ منه وَحْشَةً شَدِيدَةً ممَّا يقَالُ عليه، قال: وَجَاءَ بمتَاعه فَوَضَعهُ مع مَتَاعِي، فَقُلت: إن الحَرَّ شَدِيدٌ، فلو وَضَعتَه تَحت تِلكَ الشجَرةِ، قالَ: فَفَعَل، قال: فَرفِعَت لَنَا غَنَمٌ، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بعُسٍّ، فَقال: اشرَب، أَبَا سَعِيدٍ فَقُلت إن الحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبن حارٌّ، ما بي إلَّا أَنِّي أَكرَهُ أَن أَشرَبَ عن يدِه، أَوْ قالَ آخُذَ عن يَدِه، فَقال: أَبَا سعيدٍ لقَد هَممتُ أَن آخذَ حَبلاً فَأعَلِّقَه بشَجَرَةٍ، ثُمَّ أَختَنِقَ ممَّا يقولُ لي النَّاس، يا أَبا سَعِيدٍ مَن خَفِي عليه حَديثُ رَسُولِ اللهِ صَلى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ما خَفِيَ علَيْكُم مَعشَرَ الأنصَارِ أَلَسْتَ مِن أَعلَمِ النَّاسِ بحَديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسلمَ؟ أَليسَ قد قال رسول الله صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ: هو كَافِرٌ وأَنَا مُسلِمٌ، أَوليس قد قالَ رَسول اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وَسلَّمَ: هو عقِيم لا يُولد له، وَقَد تَرَكت وَلَدي بالمَدِينَةِ؟ أَوَليسَ قدْ قالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لا يَدْخُل المَدِينَةَ ولَا مَكَّةَ وَقَدْ أَقْبَلتُ مِنَ المَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكةَ؟ قالَ أَبو سَعِيدٍ الخُدرِي: حتَّى كِدت أَن أَعذِرهُ، ثم قالَ: أَما، وَاللَّهِ إنِّي لأَعرِفهُ وَأَعرِف مولِدَه وَأَين هو الآن. قالَ: قُلت له: تَبا لَك، سَائِر اليَومِ” صحيح مسلم.
وفاة ابن صياد:
مكث ابن صياد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام مدةً من الزمن، ثم فقده الناس في معركة الحرّة التي كانت بين الحجّاج وبين أهل المدينة، فلم يجدوه في القتلى أو في الأسرى، واختفى منذ هذه اللحظة. فقد أخرج أبو داود عن جابر رضي الله عنه قال:” فقدنا ابن صياد يوم الحرّة”. ويوم الحرة هو اليوم الذي دخل فيه أهل الشامِ في عهد يزيد بن معاوية، وسفكوا الدماء فيها واستحلّوا حرمتها.