من علامات الساعة – التمزق الداخلي للأمة:
أولاً: عن عامرُ بن سعد عن أبيه “أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَقبَلَ ذَاتَ يَومٍ مِنَ العَالِيَةِ، حتَّى إذَا مَرَّ بمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فيه رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا معهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْنَا، فَقالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فأعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنَةِ فأعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَقِ فأعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا” أخرجه مسلم في الملاحم والفتن.
ثانياً: عن خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: “صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلاةً فأطالَها فقالُوا يا رسولَ اللَّهِ صلَّيتَ صلاةً لم تَكن تصلِّيها قال أجَل إنَّها صَلاةُ رغبةٍ ورَهبةٍ إنِّي سألتُ اللَّهَ فِيها ثلاثًا فأعطاني اثنتينِ ومنَعني واحدَةً سألتُه أن لا يُهلِكَ أمَّتي بسَنةٍ فأعطانيها وسألتُه أن لا يسلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرِهِم فأعطانِيها وسألتُه أن لا يذيقَ بعضَهم بأسَ بعضٍ فمنَعَنيها” أخرجه الترمذي في الفتن.
شرح الأحاديث التالية:
– إنّ الحديث يُشير إلى فورِ رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأمته؛ لذا هذه الصلاة غير المعهودة، والتي أطَالها رغبةً ورهبةً بين يدي الله، إنما كانت بقصد التخفيف على الأمة، والاحتراز من مواطن هلاكها؛ وقد سأل الرسول الكريم فيها ربه العظيم إلا يهلك أمته بثلاثة من عظائم المهلكات، وهي القحط العام الذي يأكل الأخضر واليابس، والغرق، وفي الرواية الأخرى تسليط العدو الخارجي، والثالثة ألا تتعرض الأمة إلى التمزّق الداخلي من خلال تَشيعهم وتَحزبهم وتفرقهم، وما يترتب على ذلك من قتال داخلي.
– ويُلاحظ أيضاً من الحديثين أنّ سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لربهِ قد أجيب في اثنتين، ومنع من الثالثة، وهو إذاقة بعضهم بأس بعض، ممّا يُشير إلى أنّ أكثر بلاء الأمة كان من التمزّق الداخلي والتشيع والتَحزب والتفرق، وما يترتب على ذلك من ويلات وحروب، بل لم يكن الصحابة رضي الله عنهم بعيدين عن ذلك الاقتتال الداخلي، إلا أنه في عهدهم لم يأخذ منحى خطيراً يؤثر على العقيدة أو السلوك، وذلك لقوةِ التوجه نحو الآخرة، ولسلامةِ نواياهم، أما بعدهم فقد بدأ يأخذ الاقتتال منحى دنيوياً، وظهرت آثاره على العقيدة والسلوك والتوجهات، واشتدّ أواره في الدولة العباسية حتى تحولت إلى عشرات الدويلات ضمن دار الخلافة، وكل دويلة تكيد للأخرى، وما زالت الأمة في هذا التمزق حتى يومنا هذا، مما يدلُ أيضاً على صراحة على أنّ هذه العقوبة هي مما ابتليت بها الأمة إلى يوم القيامة وأنّ أكثر هلاكها يكون بسببها.
– قد يعترض البعض ويقول أنّ العقوبتين الأخريين، أو العقوبات الثلاثة الأخرى المذكورة في مجموع الحديثين “الغرق السنة والتسلط العدو الخارجي، وهي أيضاً من الأمور التي ابتليت بها الأمة أو بعض أفرادٍ منها، ولعلّ أقرب مثال على ذلك هي ظاهرة تسونامي التي حصدت قرابة النصف مليون وكان أكثرهم من المسلمين، ويُجاب على هذا الاعتراض بأنه لا يمتنع أن تتعرض الأمة إلى أي أشكال من العقوبة الجزئية سواء كان غرقاً أو زلزلة أو نحوها، لكن هذه العقوبة لا تؤدِ إلى فناء مجموع الأمة ولا تؤدي إلى هلاكها بالكلية، أو لا تحمل صفة العقوبة الغالبة المُفنية للأمة، وهذا هو مضمون سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لأمته، أي أن لا يقع غرق يفني كامل الأمة أو قحط يهلكها على وجه العموم، أما أن يتعرض بعض أقوام من الأمة لمثل هذه العقوبات، فسياق الحديث لا يدل على أنه المراد. يقول النووي: “أي لا أهلكهم بقحطٍ يعمهم، بل إنّ وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام”. شرح مسلم.
– وهنا قد يُقال إنّ التمزّق والاقتتال الداخلي أيضاً لم يفنِ سائر الأمة، ويُجاب عليه بأنهُ اتخذ صفة العقوبة الغالبة في حق الأمة، بحيث من تتبع تاريخ الأمة يجد أن هذه العقوبة الغالبة في حق الأمة، بحيث من تتبع تاريخ الأمة يجد أن هذه العقوبة قد لازمت الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا، بحيث ينذر تخلفها في عصر من عصور الأمة، ومن تتبع أعداد الذين هلكوا في الأمة بسبب الاقتتال الداخلي يجدهم الحظ الأوفر بالنسبة لأي عقوبة أخرى، وبالتالي يمكن القول أنّ أكثر هلاك هذه الأمة إنما يكون بسبب هذه العقوبة التي توفرت أسبابها في الأمة.