من علامات الساعة الصغرى – تسليم الخاصة:
أولاً: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “إنّ من أشراط الساعة أنّ يُسلم الرّجل على الرّجل لا يُسلم عليه إلا للمعرفة” أخرجه أحمد في مسند المكثرين.
الثاني: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:” إنّ بين يدي السّاعة تسليم الخاصة” أخرجه أحمد.
شرح الأحاديث التالية:
لكي يتم فهم المراد من هذه العلامة لا بدّ من بيان طبيعة العلاقة بين المسلمين أو طبيعة الهدي النبوي في تمتين العلاقة بين المسلمين، ودلالات هذه العلامة على مخالفة هذا الهدي، وذلك في النقاط الثلاثة:
1. هدي النبي عليه الصلاة والسلام في تمتين العلاقة بين الأسرة الإسلامية من خلال إفشاء السلام بينهم: فمن المعلوم أنّ المسلمين يمثلون مع بعضهم البعض أسرة واحدة، بل جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والعلاقة بينهم هي علاقة الأخوة التي هي أقوى من أخوة الدم في نظر الشريعة.
وهذا المعنى حرص النبي عليه الصلاة والسلام على تعزيزه إلى أقصى درجاته، ومن معززاتهِ التي حرص عليها النبي عليه الصلاة والسلام إفشاء السلام بين المسلمين دون تمييز بين المعرفة وغيرها، بل المعرفة الحقيقية التي اعتبرها النبي عليه الصلاة والسلام هي أنّ تعرف أنّ المار بك مسلم، وكفى بذلك محفزاً؛ لأن ترد عليه السلام؛ لأنه جزء منك، وأحد أفراد أسرتك من حملة الرسالة.
لذا اعتبر النبي عليه الصلاة والسلام إفشاء السلام ونشره بين المسلمين من أعظم أسباب الإيمان ومن أوسع الطرق إلى جنة حيث قال: “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم”. أخرجه مسلم.
2. السلام على الخاصة مرض أخل بالجسد الإسلامي منذ نهاية عهد الرعيل الأول: من الملاحظ أنّ لحمة المسلمين وطبيعة العلاقة بينهم قد بدأت في الانحسار بعد الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، وبدأت بعض التعاليم العامة والمعززة للحمة المسلمين تتناقص تدريجياً، ولعل من أبرز العلامات الدالة على ذلك رد السلام على المعرفة، أو تسليم الخاصة، بحيث يرد المسلم على من يخصه من المسلمين، أما غيره منهم فلا علاقة له معه تدفعه لرد السلام، وهذا شرخ خطير في طبيعة العلاقة بين أفراد الأمة المسلمة، شعر فيه بعض الصحابة في أواخر حياتهم، أذكر على سبيل المثال هذا الأثر عن الأسود بن يزيد حيث قال: “أقيمَتْ الصلاةُ فقامَ وقُمْنَا مَعَهُ فلَمَّا دخلْنَا المسجِدَ رَأَيْنَا الناسَ رُكُوعًا في مقدَّمِ المسجِدِ فَكَبَّرَ وركعَ وركَعْنَا ومَشَيْنَا وصنَعْنَا مثلَ الذي صنَعَ فمَرَّ رجلٌ يسرِعُ فقال علَيْكَ السلامُ يا أبا عبدِ الرحمَنِ فقال صَدَقَ اللهُ ورسولُهُ وبلَّغَتْ رُسُلُهُ فلمَّا صَلَّيْنَا ورَجِعْنَا وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ جلَسْنَا فقالَ بَعْضُنَا أَمَا سَمِعْتُمْ رَدَّهُ علَى الرجُلِ صدَقَ اللهُ ورسولُهُ وبلغَتْ رسلُهُ أيُّكُمْ يسألُهُ فقال طارقٌ أنا أسألُهُ فسألَهُ حينَ خرجَ فذَكَرَ عنْ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ بينَ يدِيِ الساعَةِ تسليمُ الخاصَّةِ وفَشْوُ التجارَةِ حينَ تُعِينُ المرأةُ زوجَها على التجارةِ وقطعُ الأرحامِ وشهادةُ الزورِ وكتمانُ شهادةِ الحقِّ وظهورُ العلْمِ وفي روايَةٍ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِنَّ مِنْ أشراطِ الساعَةِ أنْ يُسَلِّمَ الرجُلُ لَا يُسَلِّمُ إلَّا للمعرفَةِ”. أخرجه أحمد.
3. تسليم الخاصة نتيجة لازمة لمقدمات عدة منتشرة حالياً في المجتمع الإسلامي: إنّ تسليم الخاصة يُعتبر إفرازاً ناتجاً عن مقدمات داعية له ومعززة لوجوده في المجتمع، منها اختلال عواطف المسلمين واختلافِها، وتنوع توجهاتهم، وتناقض آمالهم، وتفرقهم إلى شيع وأحزاب، ولكل حزب شبهاته التي يستطيع من خلالها تنفير أفراده من الغير، ولكل حزب ولاؤه وبرؤهُ الخاص به، ومنها انتشار الريبة بين أفراد المجتمع، وغياب شعور الفرد بالأمن حتى مع جلسائه، فإذا أضفنا إلى تلك المقدمات الإنسعارِ المادي والدنيوي، والتأليةِ المصلحي النفعي، يمكن تصور إلى أي مدى وصلت إليه علامة تسليم الخاصة في عصرنا.
بل لا أجانب الصواب إنّ قلت أننا في زمن تسليم خاصة الخاصة، أي نحن مع هذه العلامة في أوسع دوائرها، يكفي القول أنّ بعض المباني السكنية ذات الشقق المتعددة يكون قاطنيها مثل الأغراب يكادُ لا يعرف بعضهم بعضاً، وذلك فضلاً عن عدم شعورهم بحق بعضهم على البعض برد السلام. وهذه العلامة متغلغلة في عصرنا، ولا ينكرها إلا مكابر ومن أراد معاينتها فليخرج للحظات في إحدى شوارع مدينته، وليُعاين إفشاء السلام بين الأفراد المارين.