إسكان آدم عليه السلام الجنة:
بعد أن خلق الله تعالى آدم وعلمهُُ الأسماء وأسجد له ملائكته أسكنهُ الجنة، فقال تعالى: “وقلنا يَا آدمُ اسكُن أنتَ وزوجُكَ الجنة وكُلا منها رغداً حيثُ شئتُما” البقرة:35. وقال في آيةٍ أخرى: “ويا آدم اسكن أنتَ وزوجُك الجنة”. الأعراف:19.
لقد سكن آدم عليه السلام وزوجهِ الجنة وتمتعهِما بكل ما فيها من ثمار وزروع، يأكلان من رزق الله ، ففي الجنة شيءٌ ممّا لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر، يأكلان ويشربان ما تشتهيه الأنفس وتلذُ الأعين، إلا شجرة واحدة: “ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين” البقرة:35.
آراء علماء الإسلام في موضع جنة آدم عليه السلام:
لقد اختلف علماء الإسلام في موضع جنة آدم عليه السلام على أقوال أهمها:
الجنة في السماء:
إنّ الذين قالوا في السماء فقد اختلفوا هل هي جنة الخلد أم جنة أخرى؟
1. إنّ جنة آدم عليه السلام كانت في السماء السابعة: خلقها الله لآدم وزوجه وقوله تعالى “اهبِطوا منها” البقرة:38. كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى، والإهباطُ الثاني كان من السماء إلى الأرض. وقد رد الألوسي عن أصحاب هذا القول فقال “إنه لم يصحُ أنه في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة واحتمال أنها خُلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يُقدم عليه منصف”.
2. هي جنة الخُلد: وأصحاب هذا القول هم الجمهور واستدلوا بأدلة أهمها:
– أنه أمر الله تعالى آدم وزوجه بالهبوط: “وقُلنا اهبطوا بَعضكم لبعضٍ عدو” البقرة:36. فالهُبوط من العلو والارتفاع إلى الأسفل وهذا يدلُ على أنها جنة المأوى وليس في الأرض.
– ورد الفريق الثاني القائلون بأنه إذا كان الهبوط من العلو والارتفاع، فإن الهبوط كذلك هو الانتقال من مكان إلى آخر قال تعالى “اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم” البقرة:61. فالهُبوط هنا هو الانتقال من بقعةٍ إلى أخرى، وقد يكون الهبوط من مكان مرتفع كقوله تعالى: “قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أمم ممن معك”هود:48. فنوحٌ هبط من السفينة إلى الأرض ولم يهبط من السماء.
فيكون المعنى أن آدم قد هبط من بستان الأرض، سواء هبط بمعنى خرج من الجنة، أو هبط بمعنى نزل من مستوى عالٍ في مكان مرتفع كما في قوله تعالى:”وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ“البقرة:265.
– إن الله تعالى قد عرف الجنة فقال: “اسكن أنتَ وزوجك الجنة” البقرة:53. وال التعريف التي في لفظ الجنة هي للمعهودِ في الذهن وهي جنة الخلد التي وعدَ الرحمن عباده بالغيب، فقد صار هذا الاسم علماً عليها بالغلبة.
ورد أصحاب الفريق الثاني علي هذا القول بأن الجنة ذُكرت معرفة في القرآن اثنتين وأربعين مرةً منها ست مرات كان مراداً بها جنة آدم، والباقي عبّرَ عنها بالبساتين التي في الدنيا، مثل قوله تعالى: “إنّا بلوناهم كما بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسَمُوا ليصرمنها مصبحين“القلم:17. فالجنةُ هنا هي معرّفة وليست هي جنة الخلد.
– وصف الله الجنة بأوصاف تدلُ على أنها جنة الخلد: “إنّ لك ألّا تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى” طه:118-119. لقد ورد الطرف الثاني على هذا القول بأن آدم أصابه العرّيُ عندما أكل من الشجرة “بدت لهما سوءاتهما” الأعراف:22.
– لو كانت جنة آدم غير جنة الخلد، لما كان في إخراجه منها إلى الأرض عقوبة. وردّ الفريق الثاني على هذا القول إن قولكم إنها ليست في محلها؛ لأن آدم انتقل من حياة الراحة إلى حياةٍ يأكل منها بالعرق والتعب، فهي عقوبة ولا شك، فقد ضاعت الظلال الوارفة والسعادةُ الحالمة، وأصبح الإنسان في تعبٍ ونصب.
– واستدلوا بما ورد في صحيح مسلم من حديث الشفاعة عندما يأتي الناسُ يوم الحشر إلى آدم لكي يشفع فيقولون له: “يا أبانا: استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم” صحيح مسلم.وهذا الحديث فيه دلالة قوية ظاهرة على أنها جنةُ المأوى.
– واستدلوا بحديث المحاججة بين آدم وموسى عندما قال له موسى: “أنتَ أشقيتَ ذريتك وأخرجتَهَم من الجنة” صحيح البخاري. فأدخل الألف واللام على أنها جنةُ الخلد فلم يُنكر ذلك آدم ولو كانت غيرها للردِ على موسى، فلما سكت آدم عن الرد على موسى صح أنّ الدار التي أخرجهُ الله تعالى منها بخلاف الدار التي أُخرِجو إليها”.
الجنة على الأرض:
الجنة على الأرض وهي القول الثاني، وأصحاب هذا القول هم أُبي ابن كعب وعبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينةِ واختارهُ ابن قتيبة في المعارف والقاضي ومنذر بن سعيد البلوطي في تفسيره وأفردَ له مصنفاً على حده وحكى عن أبي حنيفة النعمان وأصحابه، ونقلهُ الرازي في تفسيره عن أبي القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني، وروى كذلك عن أبي منصور الماتريدي وغيرهم من العلماء الأجلاء، وقال بعضهم إلى أنها بأرض فلسطين، وقال آخرون بعدن، وقال آخرون ما بين فارس وكرمان، وقد خلقها الله امتحاناً لآدم عليه السلام. واستدلوا على قولهم بعدة أدلة منها ما يلي:
- وصف الله الجنة بأن أهلها “لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيما” الواقعة:25. وقال أيضاً “لا يَسمَعونَ فيها لغواً ولا كِذابا” النبأ:35. وقد لغا إبليس في الجنة فقال: “ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرةِ إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسَمها إني لكما لمن الناصحين”. الأعراف”30-31. وحقدَ فيها إبليس على آدم وليس في الجنة حقدٌ، فقد دلّ ذلك على أنها ليست جنةُ خُلد.
- وصف اللهُ الجنة بأنّ أهلها “وما هُم منها بمخرجين” الحجر:48. وقد أخرج آدم وحواء من الجنة التي دخلوا فيها فتُعين أن تكون تلك الجنة غير الموعودةِ في القرآنِ للمؤمنين الصالحين من الأعمال يوم القيامة.
- جنةُ الخلد هي دارٌ للنعيمِ والراحةِ وليست بدارِ تكليف، وقد كَلفَ آدم وزوجه أن لا يأكلوا من الشجرة: “ولا تقربا هذه الشَجرَةِ فتكونا من الظالمين” البقرة:35. فدل ذلك على أنها ليست دار الخُلد.
- إبليس كان من الكافرين، وقد دخلها للوسوسةِ ولو كانت دار الخُلد ما دخلها؛ لأنه مطرودٌ منها ولو دخلها لتمزق إرباً فدل على أنها ليست دارُ الخلد ودخولهُ الجنة مستتراً كما قالوا لا يُفيد.
- الجنةُ هي محلُ تقديس وتطهير فكيفَ يقع فيها العصيان والمخالفة ويحلُ فيها عند المطهرين.