إيثار سحرة فرعون للإيمان على العقاب:
قال السحرةُ لفرعون :”قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا” طه:72. الإيثار هو الترجيح على أحد الإحتمالين على الآخر. وقال: “قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ” إن هذا التعبير في منتهى الدّقة وهو تعبيرٌ واعي وحكيم؛ لأنه كان من الممكن أن يقولوا: لن نؤثرك على موسى ولكنهم لم يذكروا موسى، وذكروا البينةُ التي جاء بها؛ ولذلك الحق سبحانه يقول: “لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ –رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً –فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ” البينة:1-3.
إن فرعون جمع السحرة من أجل أن ينصروه على موسى، ولكن الله جعلَ خذلانه وهزيمتهُ على يدّ من توسم فيهم عزتهُ ونصرهُ، ولكنهُ أراد أن يتماسك أمام الناس، فأعلن سخطهُ عليهم؛ لأنهم آمنوا بموسى عليه السلام قبل أن يأذن لهم، وزعم أنهم لو فعلوا ذلك لأذن لهم وزعمً أن موسى عليه السلام هو كبير السحرة الذي علمهم السحر ولذلك آمنوا.
لذلك فالتعبير القرآني يُفرق بين الأمر والإذن، فإذا أمر إنسانٌ إنساناً يعمل شيء، فهو يحب أن يتم عمل هذا الشيء، ولكن إذا أذنَ لأحدٍ بعملِ شيءٍ معين، فليس من الضروري أن يكون محبّاً لهذا العمل، ففرعون قال: “ءامنتُم لَهُ قَبلَ أنّ ءاذنَ لَكُم” ولم يقل: قبل أن آمركم، فهو لم يأتِ منه أمرٌ بهذا الشيء؛ لأنه ليس على هواه ولا يحبه.
فالارتقاء من الرسول إلى البينة التي جاء بها إلى من أعطى له هذه البينة. والبينات: هي الأمور الواضحة التي تحسم كلّ جدلٍ حولها، وتجعلُ الأمر واضحاً غير محتاج إلى جدل، فكانهم قالوا لفرعون: “قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ” على يدّ موسى، ولن نؤثرك على اعلى من ذلك وهو الذي فطرنا، وربما كان قولهم و“الذي فطرنا” أي قسم مثلما نقول: لن أفعل كذا وكذا والذي خلقك، أي كأنك تقسم على هذا الأمر ألا يحدث، وهذه حيثية عدم الرجوع فيما أعلنوه من إيمان بربّ هارون وموسى عليهما السلام.
وبعد ذلك انتقلوا إلى ما هددهُ به فرعون، من تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ وتصليبهم في جذوع النخل فقال له: “قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا” طه:72. أي نفذّ ما انت حاكمٌ به من تقطيع الأيدي والأرجل في تصليب في جذوع النخل، أو أن المعنى “فاضِ ما انتَ قاضٍ” أي إفعل ما بدى لك، حتى لو كان أشدّ مما قلت، لماذا؟ لأنك تقضي هذه الحياة الدنيا، فأنت يا فرعون إنسانٌ من الممكن ان تموت الآن، فتكون قد قضيت مدة حياتك، وقد ياتي من بعدك من لا يفعلُ ذلك، وهب أنّ من جاء بعدك فعل هذا الشيء فهو أيضاً حياتهُ منتهيةٌ، حتى ولو اتصلت الحياة، حتى تقوم الساعة، فالحياة الدنيا كلها منتهيةٌ، وما دام الشيء منتهياً ومتروكاً فلا يُحزن عليه، ثم قال بعد ذلك: “إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ” طه:73. فنحنُ آمنا بربنا وما دمنا رجعنا من الإيمان من البشر إلى الإيمان بخالق البشر، فهذا رُشد التفكير، ولا يصحُ أن تلومنا على رشدِ تفكيرنا؛ لأن رشد هذا التفكير سيُغير فينا أشياء كثيرة، فنحنُ أخطأنا كثيراً فامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، فكان المسالة كلها كانت عبارةً عن جماعةً مكرهين على عمل من الاعمال، قد لا يوافق طبيعتهم، ولا ميولهم، وما أكثر ما يكون هذا ، فتجد واحداً ينفذ أوامر الطغاة وهو غير مقتنع بها. إذن يُستفاد من ذلك أن هناك طغاة يحبون أن يحملوا الناس على ما يكرهون من الأعمال.
ومعنى “واللهُ خيرٌ وأبقى” اي إنّك يا فرعون ستزول ومُلكك سينتهي، والطغاة الذين سيأتون بعدك سيزولون وتنتهي حياتهم، ولا يبقى إلا الله وحده ربّ كلّ سيءٍ ومليكه فهو سبحانه يعيش كل خلقهِ في أسبابه التي خلقها، ولكن في الآخرة لا يعيشون في الأسباب، بل يعيشون بالمسبب. وأن الله خيرٌ من كلّ شيُ ولذلك قالوا إنّ الذي يجعل الله دائماً في باله يوقنُ أنّ في الله عوضاً عن كلّ فائت؛ لأنك ساعة تجعل الله في بالك دائماً تستحي أن تعمل معصيةً وهو يراك؛ ولذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: فإن لم تكن تراه فإنه يراك.