تعجب السيدة مريم بأن يكون لها غلام ولم يمسسها بشر

اقرأ في هذا المقال


تعجب السيدة مريم بأن يكون لها غلام لها ولم يمسسها بشر:

لقد كان ردّ فعل السيدة مريم عليهما: “قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا” مريم:19. نحن نعرف أن التقاء الرجل بالمرأة له وسائل: فالأولى، شرعها الخالق سبحانه وهي الزواج الشرعي بأركانهِ المعروفة، وهنا يكون مس الذكر للأنثى حلالاً؛ لأنها زوجتهُ. والثانية: وهي الاتصال المحرم بين الرجل والمرأة، وهو الزنا، فإذا تم هذا الأمر بموافقة الأنثى فهو زنا، وفيه حكم شرعي، وإذا تم رغماً فهو اغتصاب.
وكلمة “مسني بشر” إذا جاءت في القرآن فمعناها النكاح، واقرأ قول الله تعالى: “وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ” البقرة:237. فالمس يعني النكاح، والإمام أبو حنيفة رضي الله عنه حينما وقف عند قول الله تعالى: “أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا” النساء:34. قال ليس المقصود هنا اللمس أو الملامسة، ولكن المقصود هنا هو الجماع، فكلمة “لامستُمُ” أي جامعتم، وكلمة: “أنّى” يُستفهم بها عن الكيفيةِ، ومريم حين تحدثت منعت الكيفيات التي تعرفها من الزواج الحلال أو الالتقاء الحرام. والبغيُّ: هي التي تبغي الرجال، وتتخذ مكاناً معروفاً للمارسة هذا الإثم، وهناك معنى آخر للكلمة: “بغيّاً” أي مبالغة البغي، وهو الظلم.
وبعد ذلك ردّ عليها الملك بقوله تعالى: “قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا“مريم:21. فقول الله تعالى “هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ” كما قال في الردّ على زكريا أيضاً؛ وكلمةُ هين وأهون بالنسبة لله تعالى لا تأتي على حقيقتها؛ لأن كلمة: هين معناها أنّ هناك أهون، وهذا بالنسبة للفعل حين يُعالجهُ الإنسان؛ فهناك فعلٌ صعب بالنسبة له وغيرهُ أصعب، وأقل منه هين أو أهون؛ لأنّ الإنسان يعمل قدر طاقته، ولكن ربنا لا يعالج، وإنما يقولُ للشيء كُن فيكون، ولكنهُ يُكلمنا بالأسلوب الذي تفهمهُ، فيعرفنا أنه إنّ كان قد خلقنا من غير شيءٍ فإعادة خلقنا من أشياء أهون، وهذا بمنطنا نحن، فهو سبحانه وتعالى يُخاطبنا على قدر عقولنا. فخلّق عيسى عليه السلام من أم بدونِ أب، فهو شيءٌ هينٌ على الخالق سبحانه فالحقُ يُريد أن يجعل خلقَ عيسى عليه السلام آيةً للناسِ، والآيةُ تعني الأمر العجيب الذي يخرجُ عن مألوفِ العادةِ والأسباب.
فنريدُ أن نقف وقفة تأملٍ وتدبر عند قول مريم عليها السلام: “رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ” فلو إنها سكتت عند قولها: “أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ“؛ لكان تسؤلها أمراً معقولاً، ولكن إضافتها”وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ” فهنا الأمر يُثير سؤالاً: من أين أتت بهذا القول؟ هل قال لها أحد: أنكِ ستلدين ولداً من غير أب؟ إنّ الملائكة لم تخبرها بذلك، لكن ذهنها انصرف إلى مسألة المس مباشرةً، لماذا؛ لأن ذلك فطرةً وفطنةً المعرفة في التلقي عن الله تعالى عندما قيل لها: “اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ” آل عمران:45. فقالت لنفسها: ما دامت نسبتهُ إليَّ فلا أبٌ له، لذلك جاء قولها: “ولَم يَمسسني بشرٌ” إذا لا يمكن أن يُنسب الطفل للأم مع وجود الأب.
وهكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول، لقد مر بها خوف عندما عرفت أنّ عيسى منسوبٌ إليها، قالت لنفسها: إنّ الحمل بعيسى لن يكون بواسطة أب. وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر، فقال: الخالق القادر جلّ وعلا: “كذلك” أي أنه لن يمسك بشرٌ، فكان من الممكن أن يقول لها: لقد نسبناه لك؛ لأنك منذورةً لخدمة البيت، لكن قال تعالى: “كذلكَ” وهذا تأكيداً لما فهمتهُ من أنها ستنجبُ عيسى بدون أن يمسها بشر، وتتجلى طلاقة القدرة في قول الله تعالى: “اللهُ يَخلِقُ ما يَشاءُ”. وقوله تعالى: “وَكَانَ أمراً مَقضِياً” أي أنه منتهياً ولا مناقشة فيه.
وقال تعالى: “فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا” مريم:22-23. وتعني هذه الآية بأنها جملت به وبعدت على مكاناً بعيداً؛ لأنها شعرت بالحملِ وظهرَ عليها فحاولت أن تبتعد لكي لا يطلع على سرّها أحد، وكلمةُ: “فَأَجَاءَهَا” أي أنه جعلها تجيءُ؛ لأن جاء معناها جاء من نفسهِ بمحض إرادته، ولكن السيدة مريم دفعها المخاض إلى المجيء إلى جذع النخلة أي أتى بها المخاض، والمخاضُ هو عبارة عن ألمٍ شديد يُصيب المرأة عند الولادة المباشرة ويسمونهُ “الطلق” فحين جاءها المخاض اقتربت من جذع النخلة؛ لأن ألم المخاض يجعلها تستند وتتمسك بأي شيءٍ حولها، لهذا السبب جاءت إلى جذع النخلة لأنه شديد، وجذعُ النخلةِ يُطلق على الساق الذي يمتد من جذرها حتى الجريد.

استسلام مريم عليها السلام للواقع الذي حلّ بها:

حينما حدث هذا الأمر لمريم عليها السلام وأصبحت المسألةُ واقعةً من حملٍ ومخاض وولادة، فقد حدث لها نوع من النزوع لانفعالي؛ لأنها في البداية استغربت الأمر، وقالت كيف يكون لي غلاماً وأنا لم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّا؟ وبعد ذلك حملت، والحملُ في بطنها مستور ولكن عند الوضع سيُكشف الأمر ويرى الناس الغلام وتواجهها المشاكل، فهذا أمرٌ صعبً وعجيب على النفس. ونجد النزوع الإنفعالي في هذه الحالةِ وفي وقوعها: “يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا” مريم:32. فقد تمنت أنها لو ماتت قبل حدوث هذا الأمرِ لها، مع أن المشرع الحكيم نهانا أن نتمنى الموت لأنفسنا، لأنّ تمني الموت ورد حينما ادعى اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤهُ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودةً وإن الدار الآخرة عند الله خالصةً عند الله، حينئذٍ فقد نزل قولهُ تعالى: “قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين” البقرة:94-95.. أي إن كان ما تقولونه حقاً في الآخرة لكم وحدكم، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في ادعائكم، وفي نفس الآيةِ أدّ الله تعالى أنهم لن يتمنوه أبداً؛ لأنهم أحرص الناس على حياة، ولذلك فلن يتمنوا الموت أبداً.

لماذا تمنت مريم عليها السلام الموت؟

إن السيدة مريم عليها السلام تمنت الموت، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: لا يتمنينَ أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن لا بدّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيّراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي” فإنّ تمني الموت المنهي عنه بسبب حدوث ما تكره، فكأنك كرهت الحياة وتمردت على القدر فتمنيت الموت لكي أن تتمنى الموت؛ لأنك تريد لقاء الله وتخشى الفتنة في دينك وأنك ستصيرُ إلى خير مما تركت.


شارك المقالة: