قصة نوح عليه السلام في القرآن:
إنّ قصة نوح عليه السلام تُعتبرُ من أنفع وسائل وأساليب التربية في القرآن، نظراً لما جبلت عليه النفوس من الميل إلى سماعها. ولهذا يكثر الاعتماد على القصة في القرآن الكريم إلى حدٍ بعيد، حيث نجد فيه قصص الأنبياء مع أقوامهم، مثل نوح وإبراهيم ولوط وصالح وغيرهم من المؤمنين وأمثال أصحاب الكهف وذي القرنين وأصحاب الأخدود ومن العصاة أمثال قارون وأصحاب السبت.
أما عن الغرض أو الأغراض من القصص القرآني فهي كثيرة ومتعددة، فإثباتُ الوحي والرسالة، وإثبات وحدانية الله، وتوحد الأديان في أساسها، والإنذار والتبشير ومظاهر القدرة الإلهية وعاقبة الخير والشر والعجلة والتريث والصبر والجزع والشكر والبطر وكثير غيرها من الأغراض الدينية والمرامي الخلقية قد تناولتهُ القصة، وكانت أداةً له وسبيلاً إليه.
إن القصة القرآنية محكمة لا تشوبها شوائب القصة الأدبية فهي تنفذ إلى النفوس بسهولة ويسر فتطرق لها المسامع وتَستوعبها العقول فلا تملكها ولا تستنكرها، وهي من أهم العوامل النفسية تأثيراً في فكر الإنسان وسلوكه وأخلاقه ذلك لأن النفوس تطمئن للقصة القرآنية وتُقبل عليها وترنوا لمعرفة تفاصيلها لما تختص به دون غيرها من القصص.
والهدفُ من قصّها هو أنه علينا أن نحذر مما وقعوا فيه من أمور أوردتهم المهالك وعاقبة السوء فنَنجوا لاتّباع الحق واقتفاء هدي الرسل عليهم السلام، يقول تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” يوسف:111. فقد جاءت موعظة تعظ الجاهلين بالله وتبين لهم عبرةَ ممن كفر به وبرسله، وذكرى للمؤمنين، فهي تذكرةً تُذكر المؤمنين بالله ورسله كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم، وعلى جميع من يسمع القصص القرآني أن يتفكر فيها ويعتبر بأحداثها. يقول سبحانه: “فاقصُص القصص لعلهم يَتفكرون” الأعراف: 176.
وعلى الدّاعية اختيار النماذج الإنسانية ذاتُ التجارب المُفعمةِ والمليئةِ بألوان الكفاح لتكون قدوة يُقتدى بها، فالله تعالى أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام أنهُ قصّ عليه قصة نوح عليه السلام ليكونَ قُدوةً في الصبر، فيقول الله تعالى: “تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ” هود:49. ولذلك جاء عن أبي سعيد، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “لا تُصاحب إلّا مؤمناً، ولا يأكلُ طعامكَ إلّا تقيّ” رواه أبو داود.
ولقد جاءت قصة نوح عليه السلام متفرقةً في القرآنِ بخلاف بعض القصص الأخرى مثل قصةِ يوسف عليه السلام، وهذا هو غالب القصص القرآني، فيذكر الله تعالى في كل موضع الجزء من القصة الذي يخدم الغرض منه في ذاك الموضع، يجمع تلك المواضع فتكتملُ القصةِ بجميع أجزاءِها.
فبدأ الله تعالى بتنزيل القصة عامة من غير ذكر التفاصيل في سورة القمر، وإنما ذكر فيها خاتمة قوم نوح عليه السلام، وأن الله تعالى أهلكهم بسبب تكذيبهم لنبيهم، وقد ناسب ذكر ذلك ذكرُ تكذيب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في بداية السورة، ثم أنزل الله تعالى، في سورتي الأعراف والشعراء، ما فيه ذكر الشبه التي أتهم بها نوح عليه السلام وردهُ عليها وهي مشابهة للشبه التي كان كفار قريش يتهمون بها النبي عليه الصلاة والسلام وذلك للتخفيف عنه وتثبيته عليه الصلاة والسلام. ثم أنزل سبحانه وتعالى في سورة يونس تحدي نوح عليه السلام لقومه في مقابل عنادهم، ثم أردفها بسورة هود ففصّل فيها القصة، وذكر سبحانه جِدال نوح عليه السلام لقومه، وتأتي سورة الصافات بعد ذلك لتُبين مكانة نوح عليه السلام عند ربه وسرعة استجابته له بإهلاك المفسدين من قومه، ويفصل القول سبحانه وتعالى بعد ذلك في سورة نوح عليه السلام، فيضيف بعض التفاصيل التي لم تذكر من قبل كأسماء الأصنام التي كان يعبدها القوم من دون الله. وهكذا يتوالى نزول السور التي تضيف الجزئيات للقصة لتكملةِ الصورة بالنهاية.
ولا تدخلُ بعض الآيات في التفاصيل لكي لا يفقد السامعُ تركيزه، ففي قصة نوح عليه السلام لم تذكر أسماء الشخصيات كابنه الذي كفر أو زوجه التي أهلكها الله تعالى؛ لأن المنهج القرآني، يُركز على عنصر التوجيه الهادف والعظة المؤثرة دون أن يخوض في التفاصيل الأخرى التي تتعلق مثلاً بتحديد المكان والوقت والاسم؛ لأن الخوض في مثل هذه الأمور قد يُبعد المتعلم عن الهدف الأساسي.