إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السلام:
يقول الله تعالى: “وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا” النساء:159. وإنّ “لأ” هنا النافية، وهي غير إنّ لأ النافية وهي غير إنّ لأ الشرطية وهناك مثال عن إن النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الله تعالى: “الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ” المجادلة:2.
إنّ الحق هنا يقول لهؤلاء الذين يُظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته: أنت محرمة عليّ كظهر أمي لأ. هؤلاء يقول الحق لهم مصححاً هذا الخطأ الذي وقعوا فيه: “إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا” المجادلة:2 أي أن الله تعالى يُوضح ما يلي: ما أمهاتهم إلا الأئي ولدنهم، “وإنّ لأ” في هذه الآية التي نحنُ بصددها هي “إنّ لأ” النافية، كأن الحق يقول: ما من أهل الكتاب أحدٌ إلا يؤمن به قبل موته، وهذا معنى، “إنّ لأ” النافية.
يقولُ قائلٌ ما حكاية الضمائر في آية سورة النساء؛ وذلك لأن الآية بها أكثر من ضمير، مثال ذلك قول الحق في نفس الآية: “وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ” على من تعود “بهِ” وعلى من تعود في آخر“الهاء” في آخر قوله: “موتهِ” هل موت عيسى أم موت واحد من أهل الكتاب؟ فالمذكور عيسى ومذكور أيضاً أهل الكتاب في “بهِ” الأولى فيها “هاء” قد يصح أن يكون القول الآتي: لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى؟ لماذا لأن الضمير لا يُعرف إلا بمرجعه، والمرجع هو الذي يُبين الضمير، فالبعض يقول: جاءني رجلٌ فأكرمتهُ، والضمير هنا يرجع إلى إكرام الرجل. وحين نُرجع الضمير على مرجعهِ، فالمرجع هو الذي يُحدد معناه، فإن كانت هناك ألفاظ كل منها يصحُ أن يكون مرجعاً؛ إنها تحتاج إلى عملية عقلية، فعندما يقول قائل: “تصدقتُ بدرهم ونصفه” فمعنى ذلك أن الرجل تصدق بالدرهم وبنصف مثيل له.
إنّ آية النساء التي نتحدث عنها هنا نجدُ أنها تقدم فيها شيئان هما: المسيح، وأهل الكتاب، وفيها ضميران اثنان؛ فهل يعود الضميران على عيسى، أم يعود الضمير على أهل الكتاب، أم هل يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب، وأي منهما الذي يرجع على عيسى عليها السلام، وأي منهما الذي يرجعُ على أهل الكتاب، أم أن هناك مرجعاً ثالثاً لم يذكر ويُعلم من السياق وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم: “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق في قرية قرب حلب، فيخرجُ عليهم جيشٌ من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فيُهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث. لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يُسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم”.
ما هي شبهة التفريق بين أهل الكتاب والمشركين؟
إنّ من الشبهات التي أطلقها أهل أصحاب الفهم الأعوج، وهي ادعائهم بأن الله تعالى فرق بين أهل الكتاب والمشركين، مثل قول الله تعالى: “إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين” البينة:1. وهي شبهة ردّ عليها العلامة محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله، فقال: فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: “إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين” وقوله: “ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين” والعطف يقتضي المغايرة.
إنّ الجواب هنا هو أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله: “وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ – اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” التوبة:31.
لقد وصفهم الله تعالى كلهم بأنهم مشركون ونزه نفسهُ عن شركهم به. وليس هناك منافاةٌ بين وصف الله تعالى لهم بالشرك وبين كونهم أهل كتاب، فهم مشركون في واقع الأمر، وهم أهل كتاب في الأصل، كما أنه لا منافاة بين تفريق الله تعالى بينهم وبين المشركين من غيرهم في معاشرتنا لهم، من حيث حلّ طعامهم وحلّ نسائهم لنا، لأن هذه تتعلقُ بأحكام الدنيا، التي جعل الله فيها للمنافق الكافر في الدنيا ما للمسلمين، فالمنافقون هم أهلُ كتاب، وهم في نفس كتابهم كافرون في واقع الأمر. فتلكَ شبهة أوقعتهم في الخَلط بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة.
قد لا تبلغُ دعوة الإسلام لبعض الناس من اليهودِ والنصارى أوغيرهم من عُباد الأوثان، والذي لا تبلغه دعوة الإسلام لم تقام عليه الحجة، فمع ذلك فإنهُ يُحكم عليه في الدنيا بأنه كافرٌ وتُقام عليه أحكام الكفر، ولكنا لا نستطيع على الحكم عليه في الآخرة. فإن مات قبل أن يدخل في الإسلام، فإنّ حكمهُ عند أهل السنة حُكم أهل الفترة، الذين قال الله تعالى عنهم: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” الإسراء:15.