اعتناء الله تعالى بالزكاة:
لقد احتفظ الله تعالى بالزكاة، وفرضها الله في السنة الثانية للهجرة: فالزكاة ذات النصب والمقادير، وبيّن الله تعالى فيها أصناف أهل الزكاة، فقال الإمام ابن كثير رحمه الله في سورة المؤمنين: “والذين هم للزكاة فاعلون” المؤمنون:4.
إنّ الكثير استدلوا على أنّ المقصود بالزكاة هنا هي زكاةُ الأموالِ، مع أن هذهِ الآية هي مكية، والزكاةُ أول ما شُرعت في المدينةِ سنة اثنتين للهجرة، ولكن من المعلوم أنّ الزكاة التي فُرضت بالمدينة هي ذاتُ النصب والمقادير الخاصّة، وإلّا فإنّ الحقيقة هي بأن أصلُ الزكاة واجباً بمكة المكرمة كما ذكر في قوله تعالى: “وآتوا حَقّهُ يومَ حصادهِ” الأنعام:141.
وإنّ ما يدلُ على عِظم وعلوِ شأن الزكاة بأن مانعها يُقتل؛ وذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عُصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله” متفق عليه.
وهناك حديث لأبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر، كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله تعالى” فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقُ المال، والله لو منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله، ما هو إلّا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنه الحق،”وفي صحيح البخاري: أنا أبا بكر رضي الله عنه قال: والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها” متفق عليه.
و إنّ ما يدلُ على عِظم الزكاة أيضاً بأنه من جحدها فقد كفر، حتى وإنّ كان مسلماً صحيحاً وينشأ بين أهله في بلاد المسلمين، فإنه يكون مرتداً تجري عليه أحكام المرتد، ويُستتاب ثلاثاً فإذا تاب وإلا قتل؛ لأنّ أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمّة، فلا تكاد تخفى على من هذه حاله، فإن جحدها لا يكون إلا لتكذيبه: فالكتاب والسنة والسنة وكفرهُ بهما، أمّا من كان جاهلاً: إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنّه نشأ ببادية نائية عن الأمصار، فإنه يُعرف وجوبها، ولا يحكم بكفره حتى يعلم ثم يجحد وجوبها.
وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الله في حُكم من ترك الزكاة: بأنّ فيها فكرةً وجيزة، وهي إذا تركها المُزكّي وهو جاحد لوُجوبها مع اكتمال شروط وجوبها على مُخرجها فقد كفر بذلك إجماعاً، حتى ولو زكّى ما دام جاحداً لوجوبها، أمّا إذا تركها بُخلاً أو كسلاً؛ فإنّهُ في تلك الحالةِ يُعتبر فاسقاً وإنّهُ قد ارتكب كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب.
وقال ابن عثيمين: أنّ من أنكر وجوب الزكاة، فإنّه قد كفر، إلّا أن يكون حديث عهد بإسلام أو ناشيء في منطقةٍ بعيدة عن العلم وأهله وفي هذه الحالةِ يُعذر، ولكنّه يُعلّم، وإذا أصرّ بعد علمه فقد كفر مرتداً، وأمّا المُزكّي إذا منع زكاتهُ بُخلاً وتهاوناً ففيه خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إنّهُ يكفر، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. ومنهم من قال: إنّه لا يكفر، وهذا هو الصحيح، ولكنّهُ قد أتى كبيرة وعظيمة، والدليل على أنّه لا يكفر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر عقوبة مانع زكاة الذهب والفضة وغير ذلك، ثم قال: حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار” رواه مسلم.
وقد دلّ أيضاً القرآن والسنة على رفع مكانة الزكاة وتعظيم أمرها في بين عقوبة تاركها. وهذا ما يُضايقُ مشاعر الإنسان وتدمعُ لهُ عيونهم وتقشعرُ له الأبدان، فقال تعالى: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ -يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” التوبة:34-35.
وقال تعالى في كتابه الحكيم: “وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” آل عمران:180.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها من نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقدارهُ خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العبادِ فيرى سبيلهُ إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالإبل قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطحَ لها بقاعٍ أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطأه بأخفافها وتعضه فأفواهها كلما مر عليه أولاها أعيد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإمّا إلى النار قيل يا رسول الله: فالبقر والغنم قال: ولا صاحب بقر وغنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عفصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار” متفق عليه.
وهناك حديث لجابر بن عبد الله رضي الله عنه، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:” ولا صاحب مال لا يؤدي زكاتهُ إلا تحول يوم القيامة شجاعاً أقرع، يتبعُ صاحبه حيثما ذهب وهو يفرّ منه، ويُقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنّه لا بدّ منه أدخل يدهُ في فيهِ، فجعل يقضمُها كما يقضمُ الفحل” رواه مسلم.
أيضاً يحقُ للإمامِ أنّ يُعزر كلّ من تهاون في دفعِ الزكاةِ وأدائها لصاحبها، لأنّ هذا يدلُ أيضاً على رفع شأن الزكاة والمحافظةِ على تأديتها؛ وذلك بدليل حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “في كلّ إبلٍ سائمة في كل أربعين ابنة لبون، لا تفرّقُ إبلٌ على حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها ، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى ليس لآل محمد منها شيء”. وفي لفظ النسائي: “من أعطاها مؤتجراً، فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات الله، لا يحل لآل محمد عليه الصلاة والسلام منها شيء” رواه أبو داود.
واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في أخذ نصف المال عقاباً لمانع الزكاة، فمنهم من قال: يؤخذ نصف ماله مع أخذ الزكاة. ومنهم قال: بأنّه يجعل ماله نصفين، ثم تؤخذ الزكاة من خير الشطرين. ومنهم من قال: لا يُعاقب بالمال، وإنّما يعاقبه الإمام بما يراه وهذا رأي الجمهور.