رفع عيسى عليه السلام للسماء:
لما تآمر أعداء الله من اليهود على قتل عيسى عليه السلام والخلاص منه ومن دعوته، نجاه الله سبحانه وتعالى منهم وردّ كيدهم في نحورهم فرفعهُ إليه حيّاً ببدنه وروحه، ويدلُ على ذلك قوله سبحانه وتعالى:”إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” آل عمران:55. وقد اختلف العلماء بالمقصود ب متوفيك في هذه الآية، فذكر ابن جرير عدة أقوال في هذه المسألة على النحو التالي:
- قال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك ورافعك في نومك.
- وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافِعك إلىّ، ومعنى الوفاة: القبض لما يقال: توفيتُ من فلان مالي عليه، أيّ بمعنى قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله:”إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ” أيّ قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري، وآخذكَ إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
- وقال البعض الآخر أيضاً: إني متوفيك وفاة موت.
- وقال أيضاً آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى، إني رافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالِي إياك إلى الدنيا. وقال هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. ثم قال بعد أن ساق هذه الأقوال وأدلتها: بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعكَ إليّ، لتواترِ الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ينزلُ عيسى ابن مريم فيقتل الدّجال، ثم يمكث في الأرض مدةً ذكرها اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت، فيصلّي عليه المسلمون ويدفنوهُ.
وما دبره اليهود من القتل والصلب، فقد وقع على على شبيهٍ له، كما في قوله سبحانه وتعالى:”وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا–بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” النساء:157:158. وذكر ابن جرير فيمن ألقي عليه الشبه قولين:
الأول: أن الشبه ألقي على جميع أصحابه.
والثاني: أن الشبه إلقيَ على رجلٍ من أصحابه حين سألهم ذلك. واختار ابن جرير الأول.
وأضاف ابن الجوزي قولاً ثالثاً: وهو أن الذي ألقي عليه الشبه بعض من أراد قتله من اليهود. وأما في سنه حين رفعهُ الله إليه فقد كان ثلاثاً وثلاثين سنة، لما في مستدرك الحاكم، فعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى ابن مريم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ومات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رضي الله عنه.
نزوله آخر الزمان:
لقد علمنا أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام ببدنهِ وروحه، وسينزل في آخر الزمان ببدنه وروحه، وقد ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى هذا النزول حسب أقوال المفسرين، ففي قوله تعالى:”وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ” الزخرف:61.
وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة: إنه خروج عيسى عليه السلام وذلك من أعلام الساعة؛ لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدّجال من أعلام الساعة. وفي قوله تعالى:”وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا“. النساء:159.
قال ابن جرير: يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدّجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفةِ، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وأما في السنة فقد تواترت الأحاديث على نزول عيسى في آخر الزمان، كما دلت على ذلك السنة، لما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:” والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزيةُ ويفيضُ المال حتى لا يقبله أحد.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة. وما يكون في هذا النزول من كسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية وقتل الدّجال.