كيف كانت لحظة التحدي بين فرعون وموسى عليه السلام؟

اقرأ في هذا المقال


لحظة التحدي بين فرعون وموسى عليه السلام

قال تعالى في كتابه الحكيم: “فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ” يونس:80-81. أراد أنّ يُرهب السحرةُ ليُضعفَ معنوياتهم، فلما ألقى السحرةُ عصيّهم قال: لهم: “مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ” وما دام ما جاءوا به سحراً، والسحرُ تخيل وليس حقيقةً، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيُبطلهُ؛ لأنه سيغير حقيقة عصا موسى ويجعلها حيّةً حقيقةً وليس مجرد تخيًل؛ ولأن السحر إفسادٌ في الأرض فإن الله لا يُصلحُ العمل لمن أراد الإفساد، وينصر سبحانه الحق بكلماتهِ، وهو سبحانه وتعالى بمجردِ أن يقول: “كُنّ فيَكُون” يس:82. فأمرهُ بين الكاف والنون ولا ينتظر التنفيذ أن يكتمل الحرفان، ولذلك قوله: “وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ” يونس:82 ليربح العالم من إضلالِ المجرمين ومفاسدهم.
لما تجمّع السحرةُ في اليوم المعلوم وبدأت المبارزة طلب موسى منهم أن يلقوهم أولاً، فقال تعالى: “فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَفَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ” الشعراء:43-44. فألقوا ما معهم من حبالٍ وعصا، وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم الغالبون، وقد خابوا في القسمِ؛ لانّ العزة معناها أنه لا يُغلب ولا يُقهر، وهذه العزة الفرعونية عزةً كاذب؛ لأنها بلا رصيد.

ماذا طلب موسى من السحرة

لقد موسى من السحرة أن يُلقوا ما يريدون إلقاءهُ، والآيةُ هنا جاءت بالغايةِ التي انتهى إليها بعد المشاورة بينه وبين السحرة وإلّا فهناك آيةٌ أخرى تدلُ على أنّ المسألة لم تنتهي إلّا بعد تشاورٌ وحوار، فالآيات لم تأتِ لتكرر الحدث الواحد؛ وإنما جاءت لتستوعب كل أجزاء الحدث، فاتفق موسى معهم أن يلقوا هم أولاً وما معهم من أدوات السحر.
وقال بعض العلماء إنّ الحبال والعصا كانت مجوفةً، ووضعوا فيها زئبقاً حتى إذا ألقوها في الشمس تلوث كأنها ثعابين وهذا من حيلِ السحرةِ، لكن السحر، هو تخيلٌ للمسحور، فيرى الشيء على غير حقيقته؛ لأن حقيقة الشيء لا تتغير، لكن المسحور يرى الحقيقة عن طريق التخيل. فالسحرة ألقوا حبالهم وعصيّهم وأقسموا بعزة فرعون إنهم سيغلبون، والعزةُ هي القوة والمنعةُ والغلبة، ومنها العزة بالإثمِ وهي آنفةٌ وكبرياء بلا رصيد من الحق، فهناك آياتٌ أخرى كثيرة تعرضت لموضوع السحرة، ومنها قول الله تعالى: “قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ– فأوجسَ في نفسِهِ خِيفَةَ موسى – وقلنا لا تَخَف إنّك أنتَ الأعلىوَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ” طه:66-69.
أي أنّ السحرة لمّا ألقو حبالهم وعصيهم، تخيل موسى أنها تسعى فخاف، أوحى اللهُ إليه، فقال تعالى: “قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰوَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ” طه:68-69. إذن موسى ألقى عصاهُ بعد وحيٍ من ربه أثناء المعركة، فقال الله تعالى: “فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ” الشعراء:45. فكلمةُ تلقف: معناها أي تبتلع بسرعة وبقوة، فالسرعة في اختصار الزمن ومعها القوة، فجمعت بين السرعة والقوة، والإفكُ هو قلب الحقائق؛ ولذلك سمي الكذب إفكاً؛ لأنه يقلب الحقيقة، فالكذب لا يوافق واقع الاشياء، فالنسبةُ الكلامية فيه لا تطابق النسبة الواقعية.

إيمان السحرة وعقاب فرعون لهم

وبعد ذلك قال الله تعالى: “فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ” طه:70 هنا شيء عجيب، كما قال الزمخشري: إن من العجيب أنّ هؤلاء ألقوا حبالهم وعصيّهم من الكفر والجحود، فإذا بهم يُلقون أنفسهم من الشكر والسجود، فهم قدّ دخلوا هذه المعركة وهم كفرةً جاحدون، وخرجوا منها وهم مؤمنون موحِدون؛ وذلك لأنهم جمعوا كلّ كيد السحرِ وفنونهُ ووجدوا أن العملية ليست من هذا النوع، فالساحرُ يرى الأشياء على حقيقتها، وهم لم يرو عصا موسى على حقيقتها، بل رأوا لها حركةُ حياةٍ فأيقنوا أن هذا ليس من فنون السحر، ولكنه شيءٌ أعلى، وهذا يدلُ على أنّ الفطرة الإيمانية في النفس تطمسها الأهواء.
إنّ هذه الفطرة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: كُلُ مولودٍ يولدُ على الفطرة، فالهوا يطمسُ على الفطرة الإيمانية، ولكن أحياناً تستيقظ هذه الفطرة وحين تستيقظ الفطرةُ الإيمانية، فأقل شيءٍ يُصادف هذا الإستيقاض يؤثر عليه، والذي يدل على ان هذه العملية جاءت على هوى السحرة: أنهم سيقولون لفرعون: “إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ“طه:73. فهذا دليل على انّ طبائعهم وفطرتهم كانت تأبى هذا، لكن فرعون هو الذي كان يُكرههم على السحر، وحين يكبر الواحد منهم في السنّ يأمره بأنّ يأخذ مجموعةٍ من الغلمان ليُعلمهم السحر؛ لأن هذا يناسب شعوذة فرعون وادعائه الألوهية.

السحرة الذين قتلهم فرعون

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنه قيل: كانوا ثمانين ألفا. قاله محمد بن كعب، وقيل سبعين ألفا قاله القاسم بن أبي بردة، وقال السدي بضعة وثلاثين ألفا، وعن أبي أمامة تسعة عشر ألفا، وقال محمد بن إسحاق خمسة عشر ألفا، وقال كعب الأحبار كانوا اثني عشر ألفا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس كانوا سبعين رجلا. 


شارك المقالة: