التعزير:
التعزير: هو العقوبة المشروعة بهدف التأديب على معصيةٍ معينةٍ أو جناية لا حدّ فيها ولا كفارة، أو فيها حدّ، ولكن لم تتوافر فيها شروطٌ تنفيذية، مثل القذف بغير الزنا، أو المباشرة في غير الفرج، فلا يقوم بتعزير المذنب إلا الحاكم أو السيد الذي يُعزر رقيقهُ، أو الزوج الذي يعزر زوجته.
التعزير في القتل شبه العمد:
إن من الأصول الثابتة عند الحنفية أن ما لا قتل فيه عندهم، مثل القتل بالمثقل، وهو القتل بمثل الحجر الكبير أو الخشية العظيمة، يجوز للإمام أن يُعزر فيه بالقتل إذا تكرر ارتكابه، وكانت في ذلك مصلحة. وبناءً على ذلك الأصل قالوا بالتعزير بالقتل لمن يتكرر منه الخنق أو التغريق أو الإلقاء من مكانٍ عاليٍ، ونحو ذلك إذا لم يندفع فساده إلا بالقتل. ففي مثل هذه الأحوال ليس في الفعل قصاص عند أبي حنيفة؛ ولكن شرع في جنسه القصاص؛ لأنه يُعتبر قتلاً على كل حال.
وإذا كان التعزير بالإعدام جائزاً في أحوال وبشروطٍ خاصة، فيما يتعلق بالقتل شبه العمد، فإن التعزير بغير القتل في هذه الأحوال يجوز أيضاً؛ لأن جواز القتل مناطهُ أن يتعين لدفع شر الجاني، فإذا أمكن كفه ودفعَ شره بغير القتل، فإن ذلك يجوز تعزيراً. وإذا تكرر ارتكاب الفعل من الجاني، أما إذا لم يتكرر فهل يجوز تعزيره على القتل شبه العمد.
لقد قيل بوجوب التعزير في القتل شبه العمد؛ لأن الكفارة هي حقٌ لله تعالى، وتأتي بمنزلة الكفارة في الخطأ، وليست من أجل الفعل، بل هي بدل النفس الفائتة، أما نفس الفعل المحرم الذي هو الجناية، فلا كفارة فيه، وإن ذلك يظهر فيما لو جنى عليه فلم يُتلف شيئاً استحق التعزير، ولا كفارة، ولو أتلف بلا جنايةٍ محرمة لوجبت الكفار بلا تعزير، وإنما الكفارة في شبه العمد بمنزلة الكفارة على المجامع في الصيام والإحرام، ومعنى ذلك أن الجريمة نفسها التي ارتكبت، وهي القتل شبه العمد، فيها التعزير. أما ما فُرض فيها كفارة ودية فإن هذا بدل النفس التي ذهبت بها الجناية، وليس مقابلاً للفعل الإجرامي في ذاته.
فهذا الرأي صواب وصحيح وذلك لعدة أسباب منها:
- أن القتل شبه العمد جريمة على النفس، وفيها يتعمد الجاني الفعل الذي أحدث القتل، فلا خلاف في خطورة هذه الجريمة. وهي مثل القتل العمد، فيها اعتداء على المجني عليه واعتداء على حق المجتمع.
أما الاعتداء على شخص المجني عليه، فقد فُرض له ديةً مغلظة، والدّية يأخذها ولي الدم لا الدولة، فهي ليست عقوبةً خالصةً بالمعنى العام المعروف، وإن كان فيها شفاء للنفس وإطفاء لنارِ الغل والحقد على الجاني. والكفارة أيضاً عند من يقول بها، ليس لها معنى العقوبة العامة، وتدخل مع الدية في بدل النفس التي فاتت بالجناية، فهي في القتل شبه العمد بمثابة الكفارة في القتل الخطأ.
وأما الاعتداء على حق المجتمع وهو الذي يتمثّل في فعل القتل ذاته، فهو معصيةً تستحق التعزير، الذي هو عقوبة عامة تفرضها الدولة من أجل الحفاظ على حرماتها من الهلاك. - إن وجود الأجزيةِ المقدرة لهذا النوع من القتل، لا يمنع من فرض التعزير في حالات إذا كان لازماً، وقد علمنا أن التعزير يجوز أن يجتمع مع الكفارة ومع القصاص ومع الحد نفسه أيضاً إذا تطلبت المصلحة، ولا شك أن المصلحة تتطلب فرضُ التعزير في هذا النوع من القتل؛ لأن الأجزيةِ المقدرةِ فيه من نوعٍ خاص لا تحمل طابع العقوبة العامة بالمعنى المعروف، والفعل نفسه يحملُ خطراً بالغاً على كيان المجتمع، واعتداء صارخاً على حرماته، إذ هو مقصود ولا يقلل من هذا الخطر أن النتيجة قد لا تكون متعمدةً. والقول بغير ذلك يُغري الكثير بالاعتداء على النفس، لا سيما إذا وجد المال الذي يدفع ديةً لأهل القتيل ويكون كفارةً.
- وإذا كان من المصلحة التعزير في القتل شبه العمد مع الكفارة عند من يقول بها، ومع الدية المغلظة، فإن المصلحة في التعزير تكون أطهر إذا عفى عن الدية، والعفو عن الدية من حق ولي الدم، والقول بغير هذا يؤدي إلى أن يبقى القاتل دون جزاءً مطلقاً عند من لا يقول بالكفارة في شبه العمد، أو يبقى بالكفارة فقط عند من يقول بها من الفقهاء، فكل هذا لا يُسوغ.
- وإذا كان بعض الفقهاء يقول بالتعزير مع القصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس، من فصل الأطراف أو شجاجٍ أو جراحٍ، فالقول بالتعزير في القتل شبه العمد يكون بجوار الكفارة أو الدية، وهذا يتماشى مع رأي هذا الفريق من الفقهاء؛ لأن القتل العمد يشترك مع جرائم الاعتداء العمدي على ما دون النفس في الفعل.