ماذا يعني القتل العمد الذي لا قصاص فيه؟

اقرأ في هذا المقال


التعزير:

لقد تحدثنا عن التعزير بأنه يجوز أن يجتمع مع الحد أو القصاص في حالات، إذا كان في ذلك مصلحةً، فلا نعيد القول في إمكان اجتماع التعزير مع القصاص اكتفاءً بما قدمنا، وقد خرجنا منه بأن التعزير يجوز أن يجتمع مع القصاص إذا كانت فيه مصلحة إلى أن يكون القصاص في النفس؛ لأن القصاص في هذه الحالة سيذهب بحياة الجاني، فلا يكون للتعزير في هذا المجال محلٌ ولا فائدة. والذي يهمنا هو معرفة حكم الجريمة على النفس وما دونها من حيث التعزير، سواء كانت الجريمة عمداً لا قصاص فيه، أم خطأ. وسنتكلم عن التعزير في العمد الذي لا قصاص فيه، في النفس وما دون النفس، وفي شبه العمد.

القتل العمد الذي لا قصاص فيه:

إن القتل العمد فيه اعتداء مباشر على الشخص المجني عليه، وكذلك فيه اعتداء على حق الجميع، وأن الشريعة الإسلامية شرعت القصاص في القتل، وجعلته من حق ولي الدم، ليقابل ذلك الاعتداء المباشر على الشخص المجني عليه، ولكن إذا عفى عن الجاني أو سقط القصاص لسبب ما، ومعاقبته بالعقوبات التي يراها مناسبة لحالته ولجُرمه، حتى لا يبقى بدون عقوبة على ما ارتكب من جرم.
وقد اختلف الفقهاء في تعزير القاتل إذا عفى عنه: فقال مالك والليث في القاتل عمداً بأنه يُعفى عنه، وإنه يُجلد مائة ويُسجن سنة، وبهذا الرأي فقد قال أهل المدينة وهو مروي عن عمر. وقال أبو حنيفة والشافعية وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن الجاني إذا كان معروفاً بالشرِ، فإن للإمام أن يُعزرهُ بما يراه مناسباً.
وقال ابن حزم: إن العقاب بعد العفو عن القاتل عمداً لا يجوز مُطلقاً، وإن من قالوا بأن لا شيء على المعفو عنه، ومنهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو سليمان وأصحابهم وإسحاق بن راهوية، وأصحاب الحديث، فإنهم يعتمدون على ما روي عن ابن عباس من قوله إنه كان في بني اسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، ثم بعد ذلك جاء قول الله تعالى: ” كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ“البقرة:178. فالعفو أن تقبل الدية في العمد، وذلك تخفيف من الله ورحمة، فعلى ولي الدم أن يتبع بالمعروف، وعلى القاتل أن يؤدي إليه بإحسان، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.
وقال ابن حزم إن من قالوا بالأدب احتجوا بآية وهي قال تعالى: ” وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًايُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًاإِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” الفرقان: 68-70.
فشبهَ الله القتل بالزِنا، والزنا فيه الرجم على المحصن، وإذا لم يكن محصناً، فقد سقط الرجم، ووجب الجلد مائة جلدة، والتغريب لمدة عام، فالواجب على من قتل، فسقط عنه القتل مثلُ ذلك أيضاً، واحتجوا أيضاً بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: فقد أتى برجلٍ قتل عبدهُ متعمداً، فجلدهُ مائةً ونفاه سنةً، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقد منه فضلاً عن المروي عن عمر.
ولقد رد ابن حزم على هذا الأمر بحجج كثيرةٍ، ومنها أن تشبيه الزنا بالقتل قياسٌ وهو باطل، ولو قيل بالقياس فهو باطل هنا كذلك للاختلاف الظاهر، فالله تعالى لم يساوِ بين القاتل والزاني في الحكم الدنيوي، وإنما سوى بينهما في وعيد الآخرة فقط.
وإني أرى تعزير القاتل عمداً، الذي يُعفى عنه بما يُناسب جُرمه وحالته وهذا الأمر يأتي من حسن السياسة، وما تدعوا إليه المصلحة، والقول بغير ذلك يؤدي إلى أن يفلت الجاني من العقاب لمجرد العفو عنه، وقد يكون العفو عن الدية أيضاً، فيبقى بغير عقوبة، مع أنه قد ارتكب في حق المجتمع جرماً بقتله نفساً حرم الله قتلها.
وإذا سقط القصاص لفقد شرط من شروطه، فإن الجاني يُعزر، كما ولو قتل الأب ابنه، فإن من لا يقولون بالقصاص منه فيقولون بتعزيره. وكذلك من لا يقولون بالقصاص في حالة الآمر بالقتل والمباشر له، وفي حالة القتل العمد بالتسبب، يقولون بتعزير من لا يقتص منه في حالات. ويمكن القول بالتعزير في جميع الحالات التي يسقط فيها القصاص لتخلف شرط من شروطه؛ لأن الفعل محرم على كل حال، وليست فيه عقوبة مقدرةً، فيكون فيه التعزير.


شارك المقالة: