القتل شبه العمد:
لقد اختلف الفقهاء في وجود ما يُسمى بالقتل شبه العمد، والقتل شبه العمد هو: الذي يتوسط ما بين العمد والخطأ. وقال به كثير من الفقهاء وأصحاب المذاهب، ومنهم أبو حنيفة والشافعي، وقد أثبته من الصحابة عمر وعلي وعثمان وزيد بن ثابثٍ وغيرهم، ولم يخالفهم من الصحابة أحد. والذي أُشتهر عن مالك أنه ينفي وجود هذا النوع من من القتل، إلا في الابن من أبيه. وهناك البعض من قالوا بهذا النوع من القتل واختلفوا في معناه.
قال أبو حنيفة: إن كل قتل ما عدا الحديد من القصب أو النار وما يشبهُ ذلك، فهو شبهُ عمد، فالقتل إذا كان بغير جارح أو طاعن من الآلات، يكون عنده شبه عمد، حتى ولو حصل بما يغلب فيه الهلاك.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن القتل شبه العمد هو الذي يحصل بما لا يقتل مثله، فكل ما لا يكون الغالب فيه الهلاك إذا استعمل، ويعتبر القتل الحادث به من قبيل شبه العمد.
أما رأي الشافعي فقال: إن القتل شبه العمد هو ما كان عمداً في فعل الضرب، ويعتبر خطأ في القتل، أي بمعنى أن يكون ضرباً لم يُقصد به فاعله القتل، ولكن القتل تولد عنه دون أن يكون مقصوداً من الفاعل، وعلى أصله يكون العمد إذا توافر القصد إلى الفعل وإلى نتيجة الفعل معاً، ويكون الخطأ إذا لم يتوافر القصد لا في الفعل ولا في النتيجة التي أحدثها الفعل ألا وهي القتل.
والذي يظهر من ذلك أن الأمر في الغالب يرجعُ إلى الآلات المستعملة في القتل، وإلى الأحوال التي يكون فيها القتل، فإن أبي حنيفة وصاحباه فقد اعتمدوا الآلة المستعملة في القتل، وأخذوا منها قرينة على نوعه، أما الشافعي فقد توجه إلى نفس القصد عند الجاني، وتماشياً معه فقد أعطى القتل وصفه.
حكم القتل شبه العمد:
إن هذا النوع من القتل عندما لا يُثبته، يتوجبُ في القصاص؛ لأنه يكون من العمد، أما عند من يقول به فتجب فيه الدية مغلظة، والحرمان من الميراث، والكفارة على خلافٍ في ذلك، ولا يكون فيه قصاص. والقتل شبهُ العمد، هو الناتج من الضرب المتعمد الذي لا يُقصد فيه القتل، وقال الزُليعي: إن هذا النوع من القتل فيه قصد الفعل الذي أحدث الموت دون قصد القتل، فعلى ذلك فهو بهذه المثابة، وهو يُقابل جريمة الضرب المؤدي إلى الموت في التشريعات الحديثة، والتي ورد عليها النص في المادة 236 من قانون العقوبات.
أنواع القتل شبه العمد مع ذكر الأدلة:
واتفق الفقهاء على أن القتل شبه العمد له ثلاثة أقوال:
1. القتل شبه العمد معتبر شرعًا ؛ وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم في تعريفه. والدليل على ذلك من السنة:”عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :”أَلاَ إِنَّ فِى قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِى بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا” إرواء الغليل.
2. القتل شبه العمد هو باطلٌ وغير معتبر، وكان هذا مذهب الظاهرية. والدليل على ذلك قوله تعالى:” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً“.
3. ويعتبر القتل شبه العمد في قتل الوالد لولده، وما عدا ذلك فهو باطل، وهذا مذهب المالكية. والدليل على ذلك، استدل مالكٌ رحمه الله بقضاءِ عمر رضي الله عنه في حادثة قتادة المدلجي، عندما قتل ابنه، فإنه جعلها شبه عمد، والقصة هي أخرجها عبد الرزاق عن بن جريج عن عبد الكريم وقال: “أن قتادة المدلجي كانت له جارية فجاءت برجلين فبلغا ثم تزوجا، فقالت امرأته: لا أرضى حتى تأمرها بسرح الغنم فأمرها فقال ابنها نحن نكفي ما كلفت أمنا فلم تسرح أمهما فأمرها الثانية فلم تفعل وسرح ابنها فغضب وأخذ السيف وأصاب ساق ابنه فنزفَ فمات، فجاء سراقة عمر بن الخطاب في ذلك فقال: وافني بقديد بعشرين ومئة بعير فإني نازل عليكم فأخذ أربعين خلفة ثنية إلى بازل عامها وثلاثينَ جذعة وثلاثينَ حُقة، ثم قال لأخيه: هي لك وليس لأبيك منها شيء، وذكروا أنهم عذروا قتادة عند عمر فقالوا: لم يتعمده إنما أراد الحدب فأخطأتهُ فغلظّ عمر ديته فجعلها شبه العمد”.