النذر بجميع المال:
ولو نذر إنسان مسلمٍ أن يتصدق بجميعِ ماله، كأن يقول: إنَّ نصر الله المسلمين على اليهود في فلسطين أتصدق بجميع مالي في سبيل الله، فهل يلزم الناذر إنَّ تحقق الشرط أن يتصدق بجميع ماله. فإنَّ في هذه المسألة أربعةُ أقوالٍ هامة وهي كالآتي:
- القول الأول: يجب على الناذر أن يتصدق بثلث ماله، ويُجزئ الثلث عن الكل عند أصحاب هذا القول: وهو القول المعتمد في مذهب الإمام أحمد بن حنبل ومالك بن أنس رحمهما الله. واستدل من قال بهذا القول بما يأتي:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة حين قال: إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امسِك عليك بعض مالك.
الاعتراض على هذا الدليل: والذين اعترضوا هذا الدليل، بأن هذا ليس بنذرٍ، وإنَّما أراد الصدقة بجميع ماله، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالاقتصار على ثلثه، كذا أمر سعداً حين أراد الوصية بجميع ماله، فالاقتصارُ على الوصية بثلثهِ، وليس هذا محلُ النزاع، إنما النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعهِ. والجواب على هذا الاعتراض: ويُجيب ابن قدامة المقدسي على هذا الاعتراض بجوابين وهما:
1. أن قوله يُجزئ عنك الثُلث، دليلٌ على أنه أتى بلفظِ يقتضي الإيجاب؛ لأنها إنَّما تستعمل غالباً في الواجبات، ولو كان مخيراً بإرادة الصدقة لما لزمهُ شيءٌ يُجزئ عن بعضه.
2. إنَّ منعه الصدقة بزيادةٍ على الثلث دليل على أنه ليس بقربةٍ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يمنع أصحابه من القرب، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به. - القول الثاني: يجب على الناذر أن يُكفر كفارة يمين.
وروى هذا القول عن عائشة رضي الله عنها وعن عمر وجابر وابن عباس وابن عمر من الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين. وكان دليل هؤلاء هو الخبر الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام من قوله: كفارة النذر كفارة يمين. ويعترض على هذا بأن كفارة النذر إنَّما تكون كفارة يمين إذا كان النذر نتيجة غضبٍ أو نذر معصيةٍ. ثم إنَّ النذر إما أن يكون معصية فلا ينعقد ويحرم تنفيذه والالتزام به، وإما أن يكون طاعة فيجب الالتزام به. - القول الثالث: يجب على الناذر أن يتصدق بجميع ماله ولا يُجزئ الثلث ولا غيره. والذي قال بهذا القول النخعي وعثمان البيّ وأبو حنيفة والشافعي، وروى عن أحمد رحمهم الله جميعاً. وكان دليلهم على هذا القول كانوا الذين احتجوا بالحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: من نذرَ أن يُطيع الله فليُطعه، ومن نذرَ أن يعصي الله فلا يعصهِ.
الاعتراض على هذا القول ودليله: ويعترض ابن حزم رحمه الله على هذا بما مفادهُ: إنَّ النذر بجميع المال دون أن يبقى الناذر له شيئاً من ماله يُقيم به أودهُ، ويسدّ حاجاته الضرورية أمرٌ مخالف للإسلام، إذ جاءت النصوص الكثيرة من القرآن والسنة، تُمنع التصدق بكل المال وتحض على إبقاء بعضه لسد الحلة. - القول الرابع: على الناذر أن يُبقي من ماله ما يُغنيه وأهله عن الناس ثم يتصدق بالباقي. وقال بهذا القول ابن حزم، وإلى قريب من هذا ذكر في مذهب الإمام مالك رحمه الله إذ جاء في بلغة السالك، ويترك له ما يُترك للمفلس. وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله هذا القول في الأم ولم يُسنده لأحدٍ بعينه. والأدلة على هذا القول من القرآن والسنة.
القرآن: قال تعالى:”وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا” الإسراء:26.
أما السنة: قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمالك حين قال: إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله. أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا جاءه رجلٌ بمثل بيضةٍ من ذهب فقال: يا رسول الله، أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض النبي عليه الصلاة والسلام عنه مراراً وهو يردد كلامه هذا، ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها، فلو أنها أصابته لأوجعتهُ أو لعقرَته، وقال عليه السلام: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقصدُ فيتكففُ الناس خيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى.