حكومة العدل:
الحكومة لغة: مأخوذ من الفعل الثلاثي “حَكَمَ” والحكم هو القضاء بالعدل، والحاء والكاف والميمُ أصلٌ واحد بمعنى المنع؛ يُقال للحاكم حاكماً؛ لأنه يمنع الظلم، وحكم الشيء أي منعهُ من الفساد وأصلحه، ومنه حكم الظالم أي منعه من ظلمه، وحكم السفينة منعه ممّا يريد، وسُميت حكمة اللجام، وهي ما أحاط بحنكيّ الدابة؛ لأنها ترد الدابة وتمنعها من الجري الشديد، وحكمت الرجل الرجل تحكيماً، إذا منعتهُ ممّا أراد، والاسم حكومة وأُحكومة وجمعها حكومات، يُقال هو يتولى الحكومات ويفصل الخصومات.
وحكمَ يَحكمُ حُكماً وحكومةً قضى، يُقال حكم لهُ وحكم عليه، وحكم بينهم إذا قضى وفصل، وحكمه في الأمر أمره أن يحكم فيه، ومنه تحكيم المتنازعين ثالثاً بفصلٍ في النزاع بينهما، والحكومة في أرش الجراحات التي ليس لها ديةٌ معلومة.
الحكومة اصطلاحاً: وهي الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يستحقه المجني عليه من الجاني، ومصطلح حكومة العدل شائع عند الفقهاء وخاصة الحنفية، ويُطلق عليه المالكية لفظ الاجتهاد؛ لأن فيه إعمال الفكر فيما يستحقه المجني عليه من الجاني. وسميت حكومة العدل بهذا الاسم؛ لأن استقرار الحكومة يتوقف على حُكم حاكمٍ أو مُحكم معتبر، ومن ثم لو اجتهد فيه غيره يكن له أثر.
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
إن المعنى الحكومي الاصطلاحي للحكومة مأخوذ من المعنى اللغوي لها، وهو القضاء بالعدل، ففي إيجاب الأرش على الجاني في حق المجني عليه قضاءً بالعدل؛ وذلك بتعويض المجني عليه عما لحقهُ، وبمنعٍ وردع الظالم والجاني عن معاودة ارتكاب الجريمة في جناية العمد. واختلف الفقهاء في تفسير حكومة العدل ومحل الاجتهاد وإعمال الفكر على ثلاثة مذاهب.
- المذهب الأول: يرى أن الحكومة هي التفاوت بين قيمة العبد بدون أثر للجناية وقيمتهُ بذلك الأثر بعد البرء منها؛ فلو جنى إنسان جناية على حرّ؛ يُقوّم الحر كما لو كان عبداً مملوكاً سليماً قبل الجناية، ثم يُقوّم وبه أثر الجناية بعد البرء منها، ثم ينقص ينظر إلى نسبة النقص بين القيمتين وناتجهُ هو حكومة العدل الواجبة على الجاني من ديّة الحر؛ كأن يقوم العبد سليماً دينار، ثم يقوم وبه أثر الجناية بعد البرء منها بتسعين ديناراً، فقد أنقصتهُ الجناية عشر ديته فوجب على الجارح عُشر ديّة الحر؛ لأن جملة الشخص مضمونةً بالدّية، فإجزاؤهُ مضمونةً منها كما في المبيع لما كان مضموناً على البائع بالثمن كان أرش عيبه مقدراً من الثمن، وهذا عليه عامة أهل العلم كما ذكر ابن قدامة، وهو مذهب الجمهور.
- المذهب الثاني: يُنظر إلى مقدار الشجة من أقلُ شجةً لها أرش مقدر؛ فإن كانت الجراحةُ نصف الموضحةِ، فمقدار الجراحة نصفُ أرش الموضحة؛ لأن نصف عُشر الدية ثابتٌ بالنص، وما لا نصّ فيه يرد إلى المنصوص عليه باعتبار المعنى، وهو رأي الكرخي من الحنفية. وهذا يعني أن هذه الطريقة تقتصر على جراحات تقع قريبة من جراحات لها أرشٌ مقدر دون غيرها، ويكون دور حكومة العدل ” أهل الاختصاص” تحديد جراحة الجاني من الجراحة المقدرة.
- المذهب الثالث: يرى أن تفسير الحكومة هو ما يحتاج إليه المجني عليه من النفقة أو أجرة الطبيب والأدوية إلى أن يبرأ، وهو قول أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية. وهذه الطريقة تقصر عمل أهل الخبرة على تحديد النفقة وأجرة الطبيب وما يحتاج إلى الأدوية إلى أن يبرأ، حتى لا تقع المبالغة في تقديرها أي أن تقديرها لا يرجع إلى رغبة المجني عليه.
وهذه الطريقة في الوقت الحاضر، ونظراً للتقدم العلمي وتفاوت نفقات العلاج من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد ومن طبيبٍ إلى طبيب، قد تقضي إلى نفقات كبيرة لا يستطيع تحملها الجاني. وقد تفوق دية العضو؛ كأن تكون الإصابة في إصبعٍ أدت إلى قطع عصبهِ، فعمليةُ وصلهِ ليست بالسهلةِ وملكلفة كلفةً أكثر من أرش الإصبع.
نتائج المذاهب الثلاثة:
- إن نتيجة المذهب الأول: هي غير قابلة للتطبيق في واقعنا الحالي؛ وذلك لانعدام الرق.
- أما المذهب الثاني: لا يتحقق في كل الجنايات وإنما يقتصر على الشجاج التي يمكن معرفة قدرها من الموضحة، كما أن احتمال النقص قد يكون أكثر من نصف الدّية، فيؤدي إلى أن يجب أكثر ممّا أوجبه الشارع. وهذا يُلقي على حكومة العدل “أهل الاختصاص” واجبُ القيام بتحديد نوع ومقدار جراحة الجاني عند وقوعها من الجراحة المقدرة، وهذا قد يُعيق ويؤخر علاج المصاب.
وتُلزم حكومة العدل “أهل الاختصاص” أن تكون لديهم خبرة بالمُسميات الشرعية للجراحات حتى نتمكن من تحديد نوع ومقدار الجراحة؛ إذ إن أهل الطب اليوم لهم مُسميات خاصةً لنوع الإصابات قد لا تتفق مع المُسميات الشرعية، وهذا يلزم نشر الثقافة الشرعية بالمسميات الشرعية لدى الأطباء بصفةٍ عامة، ممّا يُسهل معه على الطبيب عند الكشف على المجني عليه تحديد الإصابة ونوعها ومقدارها. - المذهب الثالث: ويشمل هذا المذهب جميع الجنايات ويُناسب العصور وخاصةً في هذا الوقت حيث أصحبت التكاليف أكبرمن ذي قبل، فلو لم نأخذ به ربما أدى ذلك إلى سراية الجرح إلى نفس فتجب الدية كاملة. وبناءً عليه فإن للمفتي أن ينظر إلى نوع الجناية، فإن كانت في الرأس والوجه يُفتي بالرأي الثاني، وإن كانت في باقي الجسد يُفتي بالثالث؛ لأن المقصود من الحكومة هو تقدير الضرر الحاصل للمجني عليه ومعرفة التعويض المناسب لهذا الضرر، ولا ينكرُ على المرء إذا أخذ بالمختلف فيه.