حكم الرجوع عن التبرع بالأعضاء:
يتضمن هذا الحكم أمرانِ مهمان وهما موقف الشريعة الإسلامية من الرجوع في التبرع وأيضاً حكم الرجوع في القانون. ونحتاج هنا إلى تطبيق بعض أحكام الهبة، ولذلك كان من الضروري التعرض لبيان بعض أحكامها وهي كما يلي:
يُقالُ بأنّ الهبة لا تُلزم بمجرد العقد عند بعض الفقهاء، ولكنهُ يتوقفُ لزومها على القبض، وعليه، فإذا لم يقبض الموهوب له الهبة، فإنّ الواهب له الحق بالخيار إن شاء قبضها فأمضاها، وإنّ شاء رجع فيها، وكان هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وإذا لزمت الهبة بالقبض عند من يشترطه، أو بالعقد عند من لا يشترط القبض، فإنّه لا يصحُ الرجوع فيها بعد ذلك، إلّا الوالد فيما يهبهُ لولده.
هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: “إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لا يصح الرجوع في الهبة مشروط بشروطها ومنها أن لا يتعلق بها حقٌ لغير الموهوب له، أما إذا تعلق بها حق لغيره كأن خرجت من مُلكه ببيعٍ ونحوه فلا يجوز الرجوع عنه” .
أمّا نقل العضو فهي تأتي من باب التبرع الذي يغلب عليه طابع الإيثار، لأنّ في هذه الحالة يجب أن لا نعطيه من الناحية القضائية مرتبة أكثر من مرتبة الوعد، أو على الأكثر مرتبة الهبة موسعاً فيها على الواهب إلى أقصى درجات التوسع التي ذهب إليها الفقهاء؛ لأنّ التبرع بالأعضاء لا يلزم إلا بالقبض؛ لأنّ هذا هو مسلك جمهور الفقهاء بالنسبة للهبة، والقبض إنّما يكون في كل شيءٍ يناسبه، وقبض العضو المتبرع به كما يبدو، فيتمُ استئصاله من جسم المتبرع، والمباشرة في عملية زرعه في جسم المتبرع له، والتي تبدأ بإخلاء مكانه في الجسم من العضو التالف المراد إبدالهُ. وعلى ذلك ففي أي وقت قبل المباشرة بالعملية يصحُ للمتبرع أن يتراجع عن تبرعه.
إذن فالشخصُ المتبرع يحقُ له الانسحاب عن تبرعه بالأعضاء ما لم يتم القبض على العضو من الطرف الآخر، ولكن حقه في الرجوع لا يُمنع من إلزامهُ بتعويض ما أنفقه له بناءً على هذا التبرع، وعليه فلو باشر المريض بالإجراءات الطبية ودخل المستشفى بناء على التبرع ثم رجع المُتبرع، فإنه لا يبعد في هذه الحالة إلزامه برد النفقات الفعليةِ إليه.
ومن هذه التبرعات هي: تكاليف المشفى وأجرةُ الأطباء وما شابه ذلك؛ لأنّ رجوعه عن تبرعه بالأعضاء قد ألحق الضرر بالمتبرع والضرر يزال. وإذا حصل للمتبرع قبل تنفيذ استقطاع العضو عارضٌ في أهليته، مثل الجنون والعته، فقد كان هذا شبهة لردِ تبرعه، إذ يحتملُ أنّه لو كان في ذلك الوقت مُدركاً لرجعَ في تبرعه.
وإذا توفي المُتبرع قبل أن يقبض العضو، فإنّ التبرع لا يجوز على أغلبية الشافعية وأنّه يُبطل، وأنّ من وافقهم من القائلين، بأنّ حقّ الإذن بالقبض ينتقل إلى الوارث، فإنّنا نحتاج هنا إلى إذن الوارث بنقل العضو، أمّا على رأي الإمام مالك فالتبرع إذا لم يتبعهُ إجراءات من قبل المتبرع له حتى مات المتبرع، فإنّ هذا يؤدي إلى بطلان التبرع، أمّا إذا شرع بعد التبرع باتخاذ الإجراءات اللازمة للنقل من غير تباطؤ، فإنّ هذا يُعد بمثابة الهبة التامة، وحينئذٍ لا يحتاج قبض العضو إلا بإذن الوارث.
أمّا إذا تم زرع العضو، فإنهُ في هذه الحالة قد أصبح جزءاً من جسم المنقول إليه، وألحق فيه مشترك بينه وبين ربه، فلا يجوز للمتبرع المُطالبة باسترداده، وليس لأحد الحق في انتزاعه ما لم يقتض ذلك ضرورةً أو مقتضىً شرعي. وقد حدث فعلاً أنّ زوجةً تبرعت بكليتها لزوجها المريض، وعندما طلقها وتزوج بغيرها رفعت الواهبة قضيةً تُطالب فيها أن يُعيد زوجها كليتها لها ، ولكنّ المحكمة رفضت مثل هذا الأمر.
أمّا من الناحية القانونية في حكم الرجوع عن التبرع بالأعضاء، فيُعتبرُ باطلاً حسب القواعد العامة في القانون المدني؛ وذلك لأنّ الأصل في العقود أنّها ملزمة لأطرافها، ولكن نظراً إلى خطورة نقل الأعضاء والظروف الخاصة به فإنّ العدول عن الهبة قد أقرتهُ القوانين الوضعية التي طرحت بشأن زراعة الأعضاء، إذ أنّ جواز الرجوع في الهبة يُشجع الناس على أن يهبوا أعضاءهم؛ لأنّ الهبة لا تكون ملزمة حتى لحظة التنفيذ، وأنّ تنفيذ العملية يبدأ من لحظة التخدير، وعلى ذلك فإنّه يوجد متسع من الوقت والحرية بشكلٍ كافِ في إعادة الواهب النظر في هبته.