إن مصدرَ التشريع في الدين الإسلامي هو الله تعالى، وعلى هذا فالحاكم، أي: الذي يصدرُ عنه الحكم، هو الله وحده، فلا حكم إلّا ما حكم به الله، ولا شرع إلّا ما شرعهُ، وعلى هذا دل القرآن وأجمع المسلمون، ففي قوله تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”، “أَلا لَهُ الْحُكْمُ” وعلى هذا الأساس كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً، لأنّه ليس لغير الله سلطة في إصدار الأحكام، قال تعالى: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ“، وما وظيفة الرسل إلّا تبليغ أحكام الله، وما وظيفة المجتهدين إلّا التعرف على هذه الأحكام و الكشف عنها بواسطة المناهج والقواعد التي وضعها علم الأصول.
اختلاف العلماء في الحاكم شرعاً:
كان الإجماع منعقداً على أن الحاكم هو الله، لكن اختلفوا في مسئلتين هما: الأولى هل أحكام الله لا تعرف إلّا بواسطةِ رُسله، أو يمكن للعقل أن ينفرد بإدراكها، وعلى أي أساس يكون ذلك؟ الثانية: وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الرسول، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يتبعه من ثواب وعقاب في الآجل، ومدح وذم في العاجل؟ اختلف العلماء في هاتين المسألتين، ونحن نجمل أقوالهم فيما يلي، ثم نتبع ذلك مع بیان الراجح منها.
أقوال العلماء :
القول الأول: “قول فريق من الجعفرية ومذهب المعتزلة”، إنّ في الأعمال حسناً ذاتياً، وسوءاً ذاتياً، وإنّ العقل يستقل بفهم معظم الأعمال بالنظر إلى صفات الفعل وما يترتب عليه من نفع أو ضرر، أي: مصلحة أو مفسدة؛ وإنّ هذا الفهم لا يتوقف على وساطة الرسل وتبليغهم، فحسن الفعل أو قبحه أمران عقلیاً، لا شرعياً، أي: لا يتوقف إدراك ذلك على الشرع، وإن حكم الله يكون وفق ما أدركته أو تدرکه عقولنا من حسن الأفعال أو قبحها ، فما رآه العقل حسناً فهو عند الله حسن، ومطلوب من الإنسان فعله، ومع الفعل المدح والثواب، ومع المخالفة الذم والعقاب، وما رآه العقل قبيحاً فهو قبيح عند الله ومطلوب من الإنسان ترکه، ومع الترك المدح والثواب، ومع الفعل الذم والعقاب.
القول الثاني : “قول الأشعرية أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن وافقه من الفقهاء، وهو قول جمهور الأصوليين” خلاصته: أن العقل لا يستقل بإدراك حكم الله، بل لا بد من وساطة الرسول وتبليغه، فليس في الأفعال حسن ذاتي يوجب على الله أن يأمر به، كما ليس في الأفعال قبح ذاتي يوجب على الله أن ينهى عنه، فإرادة الله مطلقة لا يقيدها شيء، فالحسنُ ما جاء الشارع بطلب فعله، والقبيح ما جاء الشارع بطلب ترکه، فليس للفعل قبل أمر الشارع ونهيه حسن ولا قبح، والفعل إنّما يصير حسناً لأمر الشارع به لا لذات الفعل، ويصير قبيحاً لنهي الشارع عنه لا لذات الفعل، فالأفعال تستمد حسنها وقبحها من أمر الشارع ونهيه لا من حسن أو قبح في ذواتها، وبنوا على ذلك: أن لا حكم لله في أفعال العباد قبل بعثة الرسل، فلما لم يأت رسول يبلغ أحكام الله للعباد لا يثبت لأفعالهم حكم، فلا يجب عليهم شيء ولا يحرم عليهم فعل؛ وحيث لا حكم فلا تكليف، وحيث لا تكليف فلا حساب ولا مدح ولا ثواب ولا ذم ولا عقاب.
القول الثالث : “وهو قول أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي، وبعض الأصوليين، “، وخلاصة هذا القول: أنّ للأفعال حسناً و قبحاً يستطيع العقل إدراكها في معظم الأفعال بناء على ما في الفعل من صفات، وما يترتب عليه من مصالح و مفاسد، ولكن لا يلزم من كون الفعل حسنا حسب إدراك العقل أن يأمر به الشرع، ولا يلزم من كون الفعل قبيحاً أن ينهى عنه الشرع، لأنّ العقول مهما نضجت فهي قاصرة، ومهما اتسعت فهي ناقصة.
أحكام الشرع:
في نظر أصحاب القول الأول: لا تأتي إلّا عن طريق مطابقة ما أدركهُ العقل من أفضل الأفعال أو أسوئها، فما أدرك العقل حسنه جاء الشرع بطلب فعله ولا يمكن أن يطلب ترکه، وما أدرك العقل سؤة جاء الشرع بطلب ترکه ولا يمكن أن يطلب فعله، وما لم يدرك العقل حسنه أو قبحه كما في بعض العبادات وكيفياتها فإنّ أمر الشارع أو نهيه فيها يكشفان عن حسن أو قبح هذا النوع من الأفعال، وبنوا على ذلك: أنّ الإنسان مكلف قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة إليه، إذ عليها أن يفعل ما أدرك العقل حسنه وأن يترك ما أدرك العقل قبحه، لأنّ هذا هو حكم إليه بتكليف المسؤولية والحساب وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب.
القول المختار :
والقول الثالث هو الراجح المؤيد بالكتاب وعن طريق الفكر، أمّا الكتاب ففيه آيات كثيرة تدل
على أنّ الله إنّما يأمر بما هو أفضل وينهى عن ما هو أسوء، ومنها قوله تعالى : “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي” وقوله تعالى: ” يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ” فما أمر به الشارع من عدل وإحسان ومعروف، وما نهاهم عنه من فحشاء و منکر وبغي، وما أحل لهم من طيبات، وما حرم عليهم من خبائث، كل هذه الأوصاف الحسنة أو القبيحة كانت ثابتة للأفعال قبل ورود حكم الشرع فيها، ممّا يدل على أنّ للأفعال حسناً وقبحاً ذاتیين وعلى هذا فكل ما يمكن أن يقال: هو أنّ ما في الفعل من حسن يدركه العقل يجعل للفعل صالحاً لأن يأمر به الشرع، وأنّ ما في الفعل من قبح يدركه العقل يجعل الفعل صالحاً لأن ينهى عنه الشرع.