الفرق بين لفظي السفر والضرب في الأرض؟
لقد وردت آيتانِ في كتاب الله تعالى إحداهما تُبين جواز قصر الصلاة لمن كان ضارباً في الأرض، والأخرى تُبيح الإفطار في نهار رمضان لمن كان مسافراً، وإليك بيان هاتين الآيتين مع إيضاح الفرق بين السفر، والضرب في الأرض واختلاف تعلق الحكم فيهما.
– قال الله تعالى: “وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا” النساء:101.
– قال تعالى: “فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ” البقرة:185.
وإن ممّا ينبغي التنبه له أنّ الفارق بين اللفظين دقيق؛ لأن أصل الضرب هو إيقاع الإنسان بغيره ضرباً، ثم استعير منه، وشبه به الضرب في الأرض للتجارة وغيرها من السفر.
أما السفر: فإنه أصلٌ يدلُ على الانكشاف من أجل الضرب في الأرض، أما الضرب في الأرض فهو مباشرة السير بعد الانكشاف؛ لأن الضرب ليس مجرد المشي على الأرض، بل هو مباشرة قطع المسافة، التي يكون الإنسان بها مسافراً. وقد جاء في تعريف السفر لغة أنه قطع المسافة.
وعلى ذلك الأمر فقد جاء الضرب في الأرض أخص من مُطلق السفر لوجهين: أحدهما: أن الإسفار سابقٌ عليه؛ لأن لا يكون ضارباً ما لم يكن منكشفاً سافراً، ولذا فابتداء السير داخل المدن لا يسمى فاعلهُ مسافراً ولا ضارباً.
ثانيهما: هو أن الضرب في الأرض عمل من أعمال المسافر وليس هو كل عمل المسافر، وقد دلّ مفهوم الآيةِ على أن من توقف ضربه في الأرض، فقد امتنع عليه القصر؛ لأن القصر مشروطٌ له الضرب في الأرض، وهذا المفهوم هو ما دلّ عليه منطوق قوله تعالى: “فإذا اطمأننتُم فأقِيمُوا الصّلاة”.
تاريخ قصر الصلاة:
لقد كانت فريضة الصلاة الرباعية بمكة المكرمة قبل الهجرة ركعتين للمسافر والمقيم، ولم يكن للقصر ذكرٌ في هذا التشريع، ولما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في بعض الصلوات دون البعض، روى هذا الإمام البخاري عن عائشة رضي عنها أنها قالت: “فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعاً وتركت صصلاة السفر على الأولى”. صحيح البخاري.
ورواهُ ابن حبان في صحيحة ولفظه قالت: فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار.
وممّا يشهدُ لبعض معاني هذا الحديث أيضاً ما رواه الإمام مسلم في صحيحة عن عائشة، أيضاً أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
وقد روى ابن عباس رضي الله عنه التشريع الثاني لصلاتي الحضر والسفر دون الأول، وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحهِ رضي الله عنه أنهُ قال: “فرض الله الصلاة على لسانِ نبيكم صلّى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعةً”.
وهذا الحديث لا يُعارض حديث عائشة رضي الله عنها؛ وذلك لأن ابن عباس روى ما استقرت عليه الفريضةُ دون الإشارة إلى نفي الفريضة الأولى، أما حديث عائشة فقد ذكرت فيه التشريعين، لكنها لم تذكر صلاة الخوف، وهذا لا يُعدّ اختلافاً؛ لأن أحدهما صرح بما سكت عنهُ الآخر.
لكن هناك اختلاف وقع بين هذه الرواياتِ وبين ما جاء في القرآن والسنة من الإشارة إلى أن صلاة السفر والحضر شُرعت أربعاً، ثم شُرع قصر صلاة السفر دون صلاة الحضر، وذلك ما جاء في قوله تعالى: “وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا” النساء:101.
وفيما رواه يعلى بن أُمية أنهُ قال: قلتُ لعمر بن الخطاب: “فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا” النساء:101. فقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتُ منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: “صدقةً تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتهُ”. رواه مسلم.
وقال ابن حجر في التوفيق بين هذه الأدلةِ، والذي يظهر للجميع، وبه تجتمعُ الأدلةُ السابقةُ أن الصلوات فُرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلّا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار.
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، وهي قولة: “فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ” ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المُسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره من أن نزول آية الخوف كان كان فيها، وقيل كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكر الدولابي وأوردهُ السهيلي بلفظ: “بعد الهجرةِ بعامٍ أو نحوه”. وقيل بعد الهجرة بأربعين يوماً، فعلى هذا فالمقصود بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر “أي باعتبار ما آل إليه الأمرُ من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة”.
أما قول ابن عباس رضي الله عنه أنهُ محمول على أنّ مُراده بيان مشروعية أقل أعداد هذه الصلوات، بدليل صلاة الخوف فإنها شرعت ركعة، وركعتين أيضاً كما شرعت رجالاً وركباناً، وذلك حسب ما جاء في كتاب الله وسنته من صفة هذه الصلاة، ولا يصحُ أن يُقال بأنّ مرادهُ منع الزيادة على ركعة واحدة، وكذا صلاة السفر لا يصحُ أن يُقال بأن مرادهُ أنها شُرعت ركعتين ابتداء، وأنها لم تقصر من أربع، لمخالفته لظاهر الكتاب والسنة وعند الاختلاف يجب التأويل.
أما صلاة الحضر فإن الأربع هي الأقل، وهي الأكثر أيضاً، فلا يحتجُ بورودها في كلام ابن عباس على بقية كلامهِ في صلاتي الخوف والسفر؛ وذلك لعدم ورود المعارض حقها، بل إن الاقتصار على هذا العدد لم يدلُ عليه كلام ابن عباس وحدهُ، بل تظافرت الأدلة على مشروعيتهِ، وعلى عدم الزيادة عليه، بخلاف صلاتي الخوف والسفر، فقد جاءت الأدلةُ مخالفة لظاهرِ قولهِ، فوجب التوفيق بينها، وممّا يؤكد أن عائشة رضي الله عنها لا تريد ظاهر قولها إتمامها لصلاة السفر، فهي لا تتم لو كانت ترى أن فرض الصلاةكان ركعتين.