فضل البكاء من خشية الله:
يُطلقُ على الخشيةِ بأنها حالةٌ في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمةِ المولى ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع وسكون الأعضاء والوقار وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة، وقد عد الله الخشوع في الصلاة من صفات المؤمنين المفلحين، ومن صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً وهناك نصوص من القرآن ومن السنة تدل البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى.
أولاً: من الآيات التي وردة في القرآن التي تدلُ على البكاء من خشية الله:
فقال الله تعالى:” قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ”. المؤمنون:1-2. وقال أيضاً :” وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا”.
وقال تعالى: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ” مريم:58.
وقال تعالى أيضاً: “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدـَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” الأحزاب:35.
وقال تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ“ الزمر:23.
أما رأي بعض الصحابة وأهل العلم في البكاء من خشية الله. دلت هذه النصوص على أن أول مراتب الفلاح هو الخشوع في الصلاة.
فقال البغوي: الفلاحُ هو النجاة والبقَاء، وقَالَ ابن عبّاس: قد سعد المصدقون بِالتوحِيدِ وَبَقوا فِي الجَنةِ. الذِينَ هم في صَلَاتِهِم خَاشعون اختَلَفُوا فِي مَعنَى الخشوعِ، فقال ابن عَباسٍ: مخبِتونَ أَذِلاء. وقال الحسن وقتادة: خائفون. وَقال مقاتِل: أي بمعنى متواضعين. وقال مُجاهد: هو غضُ البصر وخفضُ الصوت في البكاء، ويأتي الخشوع قريبٌ من الخضوع إلا أن الخضون يكون في البدن، والخشوع في القلب والبدن والبصر والصوت. فقال تعالى: “وخشعتِ الأصواتُ للرحمن”.
وعن علي رضِي الله عنه: هو أَن لا يلتفت يمِيناً ولا شمالًا. وَقال سعيد بن جبير: هو أَن لَا يَعرِفَ مَن عَلَى يمِينِهِ وَلَا مَن على يسارِه، وَلَا يَلتَفت مِن الخُشُوع لِلَّه عَز وجل في صلاته.
وعن أبي الدرداء قال عن البكاء في الصلاة أنه هو إخلاصُ المقال وإعظامُ المقام واليقين التام وجمع الاهتمام .
قال الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار عند قوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ.
ذكر في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ” أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة. وفلاح المؤمنين مذكور ذكراً كثيراً في القرآن مثل قوله تعالى: “وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً“.
وقوله: “الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ” و أصلُ الخشوع والبُكاء في الصلاة هنا هو: السكون والراحة والطمأنينة والانخفاض، ومن هناك قول نابغة الذبيان: رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الله تعالى: “وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ إلى قوله: عَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً“.
وقد عُدّ الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المُفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله: “وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ“.
ثانياً: وجاءت نصوص السنة النبوية مصرحة بأن الباكي من خشية الله لا يلج النار حتى يعود اللبن في الضرع ، وأن النار لا تمس عين بكت من خشية الله.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، “لا يلجُ النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرئ أبدا”.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلـم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناهُ”.
وعن الحسنُ بن أبي الحسن البصري قال: لما حضرت معاذاً الوفاة فجعل يبكي فقيل له أتبكي وأنت صاحب رسول الله، وأنت وأنت فقال ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنياً تركتها بعدي ولكن إنما هما القبضتان قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا.
وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت إن رسول الله قال في مرضه مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس فقالت عائشة فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيراً.
وعن عطاء قال: دخلتُ أنا وعبيدُ بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: زر غباً تزدد حباً، قال: فقالت دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِهِ من رسول الله، قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال يا عائشة: ذريني أتعبد الليلة لربي قلت والله إني لأحبُ قربك وأحب ما سرّك قالت فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إن في خلق السماوات والأرض الآية كلها.
قال كعب الأحبار : “والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية الله تعالى حتى تسيل دموعي على خدي أحب إلي من أن أتصدق بجبل من ذهب”.
قال وهب بن منبه: “فقد زكريا ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام فوجـده بعد ثلاث مضطجعاً على قبر وهو يبكي فقال له ما هذا يا بني فقال أخبرتني أن جبريل أخبرك أن بين الجنة والنار مفازة لا يطفئ حرها إلا الدموع”.
و عن مالك بن دينار رحمه الله: “قال الباكي من خشية الله تعالى تهتز له البقاع التي يبكي عندها و تغمره الرحمة ما دام باكياً”.