مدى التفويض عند الحنفية:
إن التعزير مفوض إلى رأي القاضي بحيث يُقيمه بقدرٍ ما يعلم أن الجاني يَنزجرُ به، مع النظر إلى حال الجريمة والمجرم. وعند الحنفية: إن التفويض ليس على إطلاقه، فإنهم يقولون: إن التعزير مفوض إلى رأي الإمام، بمعنى أن له أن يختار النوع من التعزير الذي يراه مناسباً، فله أن يُعزر بالحبس أو بالضرب أو غير ذلك من العقوبات التي مر الكلام عنهما فيما يعرض عليه من الجرائم، فيكون تفويضاً من حيث نوع العقوبة.
أما إذا اقتضى رأيه بالضرب في خصوص واقعة فإنه يكون مقيداً، فلا يزيد في عدد الجلدات عن 39 أو 75 أو 79، على البيان الذي مر عند الكلام عن عقوبة الجلد، ولا يقل في الضرب عن ثلاث جلدات عن الخلاف الذي مر أيضاً.
والقاضي على هذا الرأي يحكم بالقدر الذي يراه كافياً لتحقيق الغرض من العقوبة في كل حالة تعرض عليه في نطاق الحدين الأعلى والأدنى. الحدّ الأدنى عند القدروي لا يقل عن ثلاث جلدات، ولكن الراجح عند الحنفية عدم تقدير الحد الأدنى لضرب التعزير، وإن تحدد طبيعة بسوطٍ واحد، ويكون للقاضي الحكم بما تقتضيه كل حالة على حدتها على أساس ما يرى أن الجاني ينزجر به. فإذا لم ينزجر الجاني إلا بعشرين كانت العشرون أقل ما يجب تعزيرهُ به، ولا يجوز نقصهُ عن ذلك، وإذا رأى أن الزجر لا يحصل إلا بتسعة وثلاثين كان أكثر التعزير هو أقل ما يجب منه في الحالة المفروضة.
إن خلاصة رأي الحنفية يقولون: بأن الحاكم إذا اختار الضرب تعزيراً فإنه مُقيد بحدين لا يتجاوزهما، وله أن يضم إلى الضرب أيّة عقوبة يراها، وأما إذا اختار التعزير بما عدا الضرب من عقوبات أخرى فلا حدّ في ذلك للأقل ولا للأكثر؛ لأنه مفوضٌ إلى رأي الإمام، وهذا لا ينافي التفويض، وإن كان التفويض عندهم في عقوبة الجلد مقيداً لا مُطلقاً.
قول البعض بعدم التفويض:
لقد قال البعض بعدم تفويض التعزير إلى رأي القاضي لغلبة جهل القضاة، وعدم الرأي فيهم من حيث الدين والدنيا. وهذا هو الذي قال به الطرابلسي في شرح منظومة الكنز. وقد أيدوا هذا الرأي بأن المراد من تفويض التعزير إلى رأي القاضي ليس معناه تفويضه لرأيه مطلقاً، بل المقصود القاضي المجتهد، وهو الذي يعرف الأحكام الشرعية، ويُجيد تَطبيقها على ما يُعرض له من وقائع.