ردة فعل قوم شعيب على دعوته:
إن الأسلوب الذي استعمله قوم شعيب في دعوة النبي شعيب عليه السلام لهم كانت مليئةً بالسخرية والاستهزاء، وقد جاء جواب قوم شعيب: “قالوا يا شُعَيبُ ما نَفقَهُ كَثيرًا مِمّا تَقولُ” هود: 91. مع أنه خطيب الأنبياء، أُوتي من الفصاحة والبلاغة وإقامة الحجة ورد الشبهات الشيء العظيم، ومع هذا يقول له قومه “قالوا يا شُعَيبُ ما نَفقَهُ كَثيرًا مِمّا تَقولُ” هود: 91، وهذا زور وبهتان منهم على نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهو قريب مما قاله كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: “وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ” فصلت: 5 وقال لهم نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه: “وَإِن كانَ طائِفَةٌ مِنكُم آمَنوا بِالَّذي أُرسِلتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَم يُؤمِنوا” الأعراف: 87. إذاً هما طائفتان، طائفة آمنت بشعيب صلوات الله وسلامه عليه وطائفة أخرى لم تؤمن قال: “فَاصبِروا حَتّى يَحكُمَ اللَّـهُ بَينَنا وَهُوَ خَيرُ الحاكِمينَ” الأعراف: 87. وهذا هو المطلوب، الصبر حتى يحكم الله، هذه دعوة شعيب لقومه صلوات الله وسلامه عليه فلننظر كيف كان رد قومه عليه:
- السخرية والاستهزاء: فقالوا له:“أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الحَليمُ الرَّشيدُ” هود: 87 يستهزئون، ويسخرون منه، صلوات الله وسلامه عليه، “أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا” هود: 87 نترك الأيكة التي كان يعبدها آباؤنا، أصلاتك تأمرك بهذا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، أتمنعنا من أكل أموال الناس بالباطل، أتمنعنا من البخس، أتمنعنا من المكوس، أتمنعنا من السرقة؟! دعنا نفعل في أموالنا ما نشاء، ثم قالوا له كلمة: “إِنَّكَ لَأَنتَ الحَليمُ الرَّشيدُ” هود: 87 يريدون السخرية منه صلوات الله وسلامه عليه.
- اتهموهُ بالسحرِ، فقالوا: “إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ” الشعراء: 153.
- التهديد بالنفي والرجم: “قالَ المَلَأُ الَّذينَ استَكبَروا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا” وقالوا له كذلك: “وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ” هود:91.
- أيضاً اتهموهُ بالكذب، فقالوا: “وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ” الشعراء: 186، “فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ” الشعراء: 187.
- حاولوا صد الناس عنه، قالوا: “لَئِنِ اتَّبَعتُم شُعَيبًا إِنَّكُم إِذًا لَخاسِرونَ” الأعراف: 90.
وفي قولهم: “وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ” هود: 91 تحتاج إلى وقفة، لأن معنى هذا أن رهط شعيب كانوا سينصرونه فيما لو أراد الكفار أن يضروه، وهذا كما وقع من رهط النبي محمد عليه الصلاة والسلام إذ كانوا ينصرونه ويدفعون عنه، وكان أبو طالب يدافع عن النبي صلّى الله عليه وسلم أشد الدفاع بل لما مات أبو طالب تعرض النبي صلّى الله عليه وسلم للأذى من قريش أكثر مما كان يتعرض له في زمن أبي طالب، ففي زمن أبى طالب كانت قريش تذهب لأبي طالب وتقول له: امنع ابن أخيك، وكان يقول لمحمد صلّى الله عليه وسلم:
واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أُوَسَّدَ في التراب دفيناً.
أدفع عنك وإن كنت لست على ديني ولكني أدفع عنك حمية، يحامي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين إلى شعب أبي طالب ثلاث سنوات، خرج معه الكفار من بني هاشم والكفار من بني المطلب، عدا عم النبي عليه الصلاة والسلام أبو لهب، هذه العصبية القبلية قد تنفع، وقد تكون طيبة ويستفيد منها المؤمن، ولكن لا يجوز أبداً أن ينادى بها وأن يقدم الكافر القريب في النسب على المؤمن البعيد في النسب، فتلك كما قيل: قرابة طين، وقرابة المؤمن للمؤمن: قرابة دين.
ولقد قال لهم نبي الله شعيب وهو يدعوهم إلى اللهِ جلّ جلاله: “وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ” هود: 88 الداعي إلى الله جلّ وعلا يكون قدوة، بل هذه هي صفات الأنبياء والمرسلين وعكسها تماماً صفات الكافرين والمنافقين، قال نوح صلوات الله وسلامه عليه: “وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ” هود: 88.
وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: “وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيها” طه: 132 هذه صفات المتقين، وصفات الأنبياء، وأما أعداؤهم وأعداء الصالحين فقال الله لهم: “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” البقرة: 44 وقال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ – كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” الصف:2-3.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابُ بطنه فيدورُ بها كما يدورُ الحمارُ في الرحى، فيجتمع إليه أهلُ النار فيقولون: يا فُلان ما لك ألم تكُن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ” أخرجه البخاري ومسلم.
وذُكر أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه فقال: إني أريد أن أُذَكِّر الناس فقال له عبد الله بن عباس: إذا لم تخش أن تُفتضح بثلاث آيات فافعل وهي: “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ” البقرة: 44. “وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ” هود: 88، “كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” الصف: 2-3.