قصة بقرة بني إسرائيل:
لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصصٌ كثيرة وآياتِ متعددة مليئة بالعبر، ومن بين هذه القصص قصة بقرة بني إسرائيل، وسميت سورة البقرة بهذا الإسم على أساس الأحداث التي حصلت في هذه السورة الكريمة.
لقد جاء في الخبر أن رجلاً من بني إسرائيل كان غنياً ولديه مالٌ كثير، ولكنه كان عقيم ولم ينجب أولاد، وكان له ابنُ أخٍ لئيم، وكان ينتظرُ موت عمه بفارغ الصبر حتى يرث ماله، ومضت الأيام ولم يمت عمه، فقام بتدبير مكيدة لعمه، وجاءهُ في ليلةٍ مظلمة لا يراهُ فيها أحد وقتل عمه، وحينما قتله حمل جثته ورماها عند بيت أحدٍ من الناس حتى يتهمه هو بقتله، فعندما طلع الصباح وجدوا جثة موجودة أمام أحد البيوت، فقاموا قبيلة الرجل الثري على القبيلة التي وجدوا الجثة عندها وأرادوا القتال، وثارت مقتلة كادت أن تعصف ببني إسرائيل.
فجاء الحكماء وقالوا لبعضهم البعض: لماذا تتقاتلون وفيكم نبي الله، فسألوا أين نبيكم، قالوا: نبينا هو موسى عليه السلام، فقال بعضهم: اذهبوا إلى موسى عليه السلام، وأخبروه بما حدث، وقولوا له أن يسأل ربه حتى يدلكم عن القاتل، فذهبوا إلى موسى وقالوا لموسى اسأل لنا ربك من القاتل، فأجابهم موسى، هل إن أخبرتكم عن القاتل تشكرون ربكم وتؤمنون به، قالوا: نعم.
فراح موسى عليه السلام يصلي ويسجد ويناجي ربه ويطلب منه بأن يُخبره عن القاتل، فنزل الوحي على موسى وطلب منه بأن يُخبر قومه أن يذبحوا بقرة وأن يتقربوا من الله تعالى؛ حتى يُخبركم كيف قُتل هذا الرجل ومن قتله. فقال تعالى: “إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ” البقرة:67.
فذهب موسى إلى قومه وقال لهم: اذبحوا بقرة، فردوا عليه هل أنت تستهزءُ بنا، نقول لك اسأل ربك من قتل هذا الرجل وتقول لنا أن نذبح بقرة، فرجعوا إلى موسى عليه السلام مرةً أخرى وطلبوا منه أن يقول لهم من قاتل هذا الرجل الثري، فكرر موسى عليهم وقال لهم: اذبحوا بقرة، أي بقرة، سواء صغيرة أو كبيرة، المهم أن تكون بقرة، فإن سمعتم كلامي وذبحتم بقرة لعلتم من قتل هذا الرجل، ولكنهم شددوا الأمر فشدد الله عليهم.
صفات بقرة بني إسرائيل:
فرجعوا في المرة الأخيرة على موسى عليه السلام وقالوا له: ما هي البقرة التي تريدنا أن نذبحها، فقال لهم: أي بقرة كانت، المهم أنها بقرة، فطلبوا من موسى أن يدعوا ربه أن يُبين لهم ما هذه البقرة.
1- فقال تعالى: “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ” البقرة:68.
وعادوا مرة أخرى لموسى عليه السلام وطلبوا منه أن يسأل ربه ما لون هذه البقرة، فأجابهم موسى عليه السلام، أن تكون صفراء ولافتة للناس، وأن لا تشوبها أي شائبة ولا مرض ولا عاهة في جسمها، فقال الله صفراء وفاقع لونها وتَسرُ الناس التي سينظرون إليها.
2- قال تعالى: “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ” البقرة:69.
وفي المرة الثالثة عادوا إلى موسى عليه السلام؛ لأنهم لم يكتفوا بما طلبوا منه، فطلبوا في المرة الأخيرة بأن يذكر لهم ماذا تكون هذه البقرة وما هي. فأخبرهم موسى عليه السلام أن البقرة تكون غير ذلول، بمعنى أنها لم تستخدم لا لحراثة ولا لزراعة ولا لسقاية ولا غير ذلك، بمعنى أنها حرة غير مستخدمة في أي عمل من الأعمال، وأن تكون أيضاً كاملة اللون، لا يوجد فيها لونٌ آخر ولا أن يكون فيها أي عيب ولا علامة تظهر فيها.
3- قال تعالى: “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ –قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ” البقرة:70- 71.
بقرة بني إسرائيل والصبي اليتيم:
لقد بحث بني إسرائيل عن البقرة التي وصفها موسى عليه السلام لهم وهي أن لا تكون صغيرة ولا كبيرة، وهي صفراء وفاقعٌ لونها وتسر الناظرين، وأنها لم تكن مُسخّرة لا للسقاية ولا لحراثة وأن لا يوجد فيها أي عيب، وظلوا يبحثون عن مواصفات هذه البقرة ويبحثون حتى وجدوا هذه البقرة عند شخص واحد، وهو صبيٌ يتيم وكانوا أبوه رجل صالح وكانت هذه البقرة موجودة عنده، فأتى إليه رجل وقال له: يا غلام إن بني إسرائيل يبحثون عن بقرة مثل بقرتك هذه، فإن جاءوا إليك، لا تُعطيهم هذه البقرة إلا بمبلغ باهظ.
فجاء بني إسرائيل إلى الصبي ونظروا للبقرة، فقالوا له: هل تبيع هذه البقرة؟ قال: نعم أبيعها، قالوا له: سنعطيك ملء جلدها ذهباً، فلم يقبل الصبي، فعرضوا عليه أن يعطوه عشرة أضعاف جلدها ذهباً، فقبل الصبي وأعطاها لهم.
فذهبوا بالبقرة إلى موسى عليه السلام وقالوا له: هذه هي البقرة التي وصفتها لنا بالكامل، فطلب منهم موسى أن يذبحوها، ولكن لم يفعلوا؛ لأنهم خافوا أن تُذبح هذه البقرة ويظنُ كل واحد منهم أن يطلع القاتل من قبيلته أو قومه أو جماعته، وظل موسى يكرر عليهم الطلب بأن يذبحوها حتى تتبين الحقيقة لهم.
فاستجابوا لأمر موسى عليه السلام وذبحوها، وقالوا لموسى: ماذا نفعل الآن بعد ذبحها، قال لهم موسى عليه السلام خذوا بعضاً من عِظامها واضربوا القتيل بعظمة من عِظامها، فعندما ضربوا العظمة بالرجل الثري، وإذ بالرجل يفتح عينيه ويقوم من موتهِ، ففزع الناس وفزع بني إسرائيل من وهلة ما حدث، فصار الرجل الميت ينظر للناس ومن بينهم ابن أخيه الذي يتظاهر بأنه بريء، فأشار عليه الرجل وقال: “هذا الذي قتلني” وأشار على ابن أخيه، فرجع للموت مرةً أخرى، فقال تعالى: “وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ – فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” البقرة:72.
فظهرت الحقيقة وبين ذلك الرجل قاتله وتظهرُ آية ومعجزة أخرى في بني إسرائيل يُبينها الله تعالى على يد نبيه موسى عليه السلام، يبين فيها أن بني إسرائيل كم شقوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، وكيف استجاب أهل الإيمان لنبينا عليه الصلاة والسلام وقالوا: سمعنا وأطعنا، أما بني إسرائيل ظلوا يشقوا ويشددوا، ولكن في النهاية ما كانوا يفعلون، فالله تعالى يُظهر حقيقة الظالم في نهاية الأمر، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.