تتابع الفتن وكثرتها:
أولاً:عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:” تُعرض الفتن على القُلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأيُّ قلبٍ أشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأيّ قلبٍ أنكرها نُكت فيه نُكتةٌ بيضاءُ حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصّفا فلا تضرّهُ فتنةٌ ما دامت السماوات والأرضِ، والآخرُ أسودُ مُرباداً كالكوزِِ مُجخيّاً لا يَعرفُ معروفاً ولا ينكرُ مُنكراً إلا ما أُشربَ من هواهُ”. أخرجه مسلم.
شرح الحديث:
إن هذا الحديث فيه إشارة إلى كثرة الفتن التي تعصف بقلوب المسلمين، وقد شبه النبي عليه الصلاة والسلام كثرتها وتتابعها، بأعواد الحصير التي تُعطى للنسّاج، فالنساجِ إذا وضع عوداً ناوله غيره عوداً آخر، وهكذا حتى يتم صنع الحصير، وكذلك الفتن تعرض على القلوب متتابعة كل واحدة تسلم للأخرى كما تعرض العيدان على النساج، أو هو يُشير إلى تتابع الفتن وتلازمها كأعواد الحصير المتراصة مع بعضها البعض. إن الحديث أشار إلى أثر هذه الفتن على القلوب التي بها صلاح الإنسان أو فساده، وقد قسم أثرها بالنسبة إلى تقبل القلوب لها أو إنكارها إلى نوعين:
النوع الأول: قلوب تتأثر بالفتن تدريجاً حتى تتغلغل في جميع نواحيها، أو حتى تتشربًها لدرجةٍ لا يبقى فيها مكان للإيمان، وهذا وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بوصفين:
– تصبح قلوب سوداء مع بياض خفيف.
– وتصبح هذه القلوب منكسةً، أي مائلة لا تقبل الحق، ولا يعلق بها خير أو حكمة مثلها الإناء المنكوس الذي لا يقبل دخول الماء فيه، لذا تتحول هذه القلوب إلى أوعيةً غير مهيأة تماماً لقبول أي شيء من الحق، بل تحرم هذه القلوب التمييز بين الحق والباطل، وإذا وافقت أمراً فيه حق فإنما توافقه؛ لأنه يتناسب مع هواها فقط، لا لكونه حقاً.
ومعنى الحديث هنا أن صاحب هذا القلب يتابع هواه، ويخوض في الفتن أو يقع فيها سواء كانت فتنُ أموال أو نساء أو شبهات أو شهوات أو غير ذلك فيتأثر فيها ويرتكب المعاصي، فيدخل في قلبه مغلفاً عن قبول الحق أو القول به أو التأثر فيه.
النوع الثاني: وهي القلوب التي تُنكر الفتن، وهذه القلوب وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها تصبح محصنةً من الفتن لا تتأثر بها، لذا تُصبحُ بيضاء، وذلك يقتصرُ أمر هذه القلوب إلا النور الذي يغمرها، وتستبينُ من خلاله الحقُ من الباطل، ولا يقتصر أمرُ هذه القوب على البياض أو النور، بل تصبح شبيهةً بالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يُعلق فيه شيء من الغبار، ولا يحملُ شيئاً فوقه دخيلاً عليه؛ أي أنّ هذه القلوب بعد ذلك لا تتأثر بالفتن، ولا يعلق فيها شيء من غبارها.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “إنَّهُ لمْ يكنْ نَبِيٌّ قَبلي إِلاَّ كان حَقًّا عليهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ على ما يَعْلَمُهُ خيرًا لهُمْ ويُنذِرَهُم ما يَعْلَمُهُ شَرًّا لهُم وإِنَّ أُمَّتَكمْ هذه جُعِلَت عَافِيَتُها في أولِها وإِنَّ آخِرَهُمْ يُصِيبُهُمْ بَلاَءٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَها ثُمَّ تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُها بَعْضًا فيقولُ المؤمنُ هذه مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ ثُمَّ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فيقولُ المؤمنُ هذه مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ فمَن سَرَّهُ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النارِ ويُدخَلَ الجنةَ فَلْتُدرِكْهُ مَوْتَتُهُ وهوَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ ولْيَأْتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يَأْتُوا إليهِ ومَنْ بايَعَ إِمامًا فَأعطاهُ صَفْقَةَ يمينِهِ وثَمَرَةَ قلبِهِ فَلْيُطِعْهُ ما استطاعَ فإنْ جاء آخَرُ يُنازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ” أخرجه مسلم.
شرح الحديث:
– إن هذا الحديث يُشير إلى أنّ هذه الامة سُتبتلى بفتنٍ كثيرة وأمورٌ وبلايا، والمتتبع لحال الأمة في عصرنا يجدُ مصداقية كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
– إنّ في الحديث إشارةً إلى تتابع الفتن المهلكة، حيث وصفها النبي عليه الصلاة والسلام، بأنها يرفق بعضها بعضاً إشارةً إلى تتابعها، وتعلق بعضها ببعض، وفي الغالب أنّ الفتن المقصودة هنا هي فتن الدماء، والحديث يُشير إلى أنها تأخذ منحى تصاعدياً، بحيث تكون الفتنةُ التالية أشدّ من سابقاتها، وهذا واضحٌ من قول المؤمن عن الفتنة الأولى أنها مهلكته ثم إذا انقضت وجاءت التي بعدها، جزم أكثر بالهلاك، لذا يقول من باب التأكيد هذه هذه.
– إن الحديث أيضاً بين مسلك النجاة بثلاث أمورٍ:
الأول: هو المحافظة على الإيمان، وقد ذكر الحديث أهم مَعلمين من معالمهِ وهما الإيمان بالله واليوم الآخر وفي ذلك إشارةً إلى أن هذه الفتن أول ما تعصف إنما تعصف بأصول الإيمان في قلوب الناس، وتحولهم إلى الشرك أو تضعف في قلوبهم التوجه نحو الآخرة، وتعزز فيها طلب الدنيا.
الثاني: فهو معاملة الناس بالحسنى.
الثالث: فهو طاعة إمامةً في الحق بعدما يُبايعهُ، فلا يسعى للخيانة أو الفرقة.