موسى عليه السلام ووجوده في السماوات العلى

اقرأ في هذا المقال


موسى عليه السلام ووجوده في السماوات العلى:

قال الله تعالى: “وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً” الأعراف:142. إن الأعداد في القرآن لها أسلوبان أسلوب إجمالي والآخر تفصيلي، فالله سبحانه يقول في سورة البقرة: 51. “وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً” آتى بها إجمالاً، وفي هذه الآية آتى بها ثلاثين، ثم آتى الثلاثين بعشر، إذن الميقاتُ هو أربعين ليلةً، وبذلك يكون العدد في القرآن الكريم مجملاً مرة ومفصلاً مرةً أخرى واتفق الإجمال مع التفصيل، فليس هناك خلاف، ولكن إذا اختلف الإجمال عن التفصيل فأيهما يحمل عن الآخر.
لقد قال بعض العلماء: إنّ سبب امتداد الثلاثين يوماً إلى أربعين هو أنّ قوم موسى عليه السلام عبدوا العجل ثلاثين يوماً، فكان لا بدّ أن تكون هناك فترةً؛ حتى لا يعود موسى إلى قومه وهو يعبدون العجل، فيحدثُ ما لا يُحمد عقباه، وعندما غادرَ موسى عليه السلام مكان قومه استخلف أخاهُ مصادقاً لقوله: “وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي” الأعراف:142.
إنّ موسى وهارون نبيانِ وموسى عليه السلام هو الذي طلب من الله أن يشدّ أزرهُ بهارون، ولكن قوله أخلفني في قومي، معناه أن ميقات الله ولقائه كان مهمةً عند موسى عليه السلام وحده، وكان لا بدّ أن يوجد خليفةً يُبقي على القوم، فكان هارون، وبعض الناس قد يتساءل، كيف يكون الشريك في رسالة خليفةً بشريكه؟ نقول: إن الإثنين كانا رسولا ربّ العالمين، ولكن لكلّ منهما حضٌ من الرسالة وحضّ هارون أن يبقى، وحضّ موسى أن يذهب للقاء الله تعالى، وقوله تعالى: “وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَالأعراف:142.
إن في هذه الآياتُ أمرٌ ونهي فأصلح أمراً ولا تتبع نهياً فهي تكاليف الحق سبحانه وتعالى لعباده، لا تخرج عن ذلك وافعل ولا تفعل ويقول الحق لعباده افعلوا إلا إذا كانوا صالحين للفعل وعدم الفعل ولا يقولُ لهم: لا تفعلوا إلا إذا كانوا صالحين للفعل وعدم الفعل، وهكذا كان التكليف الأول لآدم وحواء في قوله تعالى: “ولا تقربا هذهِ الشجرة” الأعراف:19.
وكلمة أصلح تستلزم على الأقل أن يبقى الصالحُ على صلاحهِ فلا يفسدهُ أحد، ولكن يزيده صلاحاً، وقوله تعالى: “وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ” ولم يقل: “ولا تفسد” هذا يُلفتنا إلى أن هارون نبيٌ لا يأتي منه إفسادٌ، ولكن الله يعلم أنه ستقوم فتنة بعد رحيل موسى عليه السلام وسيعبدُ قومه العجل؛ لذلك ألهمَ موسى لكي يقول لهارون: “وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ” أي لا تطع القوم إذا أفسدوا في الأرض، ولذلك عندما حدث الإفساد وأمسك موسى برأس أخيه ولحيته اعتذر هارون بقوله: “إن القوم كادوا يقتلونني” أي أنه فعل ما في استطاعته لإبعاد القوم عن طريق الفساد ولكنه فشل.

تكليم موسى عليه السلام لربه:

فالله تعالى يكملُ قصة موسى عليه السلام فيقول: “ولمّا جاء موسى لميقاتنا” الأعراف:143. والميقات هو: الوقت المحدد لعملٍ من الأعمال. وقوله تعالى: “وكلّمهُ ربّهُ” تدلُ على أن كلاماً ما حدث من الله لموسى، ولكن الكلام يحدث بين البشر والبشر، وكلام الله للبشر محدود في القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” الشورى:51.
إذن فهناك صريح بأنّ لا يُكلّم الله بشراً إلا بثلاث طرق: إما بالوحي، وإما من وراء حجاب وإما بواسطة رسول، والوحي: هو الشيء الذي تأتي إلى العقل والقلب فيفهمه الإنسان ويطمئن له وينفذهُ على الفور.
ويقول تعالى: “وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا” الأعراف:155 كلمة اختار تدلُ على أنّ ما فعله موسى هو فعل اختياري يستخدم فيه العقل؛ لترجيح رأي على رأي، ولذلك يُقال اختار أي طلب الخير، واختار ما يؤدي به إلى هذا الخير. وهذا لا بحدث إلا في الأمور الاختيارية التي هي مناطُ التكليف، فاللسان خاضعٌ لإرادةِ صاحبه يخضع للمؤمن حين يقول لا إله إلا الله، وللكافر حين يستخدمهُ في ما ينقض الإيمان، لم يعص في هذه ولا في هذه، ولكن المؤمن اختار الإيمان، فقال: لا إله إلا الله، والكافر اختار ما يناقض ذلك.

ما هو الفضل الذي طلبه موسى عليه السلام من ربه؟

عندما خص الله موسى بميزة الكلام حدث عند موسى الاستشراق، وقال: ما دام الله قد كلمنى فلأطلب منه فضلاً آخر، وهو أن أراهُ، فإن الأنس والاستشراق بالله محببٌ إلى النفس المؤمنة، أراد موسى عليه السلام أن يزداد أنساً بربه، فقال تعالى: “رَبّ أرِنّي أنظُر إليك” الأعراف: 143. ولكن موسى لم يقل: ربّ أرني ذاتك؛ لأنه يعرف أنه بطبيعتةٍ تكوينه البشرى لا يستطيع أن يرى الله، ولكنه يعلم أيضاً أنّ الله تعالى الذي خلق القوانين يستطيع أنّ يغيرها ويُبدلها متى أراد، وما دام موسى ببشريتهِ ليس معداً لهذه الرؤية، فقد طلب من الله تعالى أن يراه، أي يُغير طبيعة خلق موسى كإنسانٍ لكي يرى، والمهم أنّ الله تعالى هو الذي سيفعل، ولكن المخلوق في الدنيا لا يحتمل في تكوينه أن يرى الخالق؛ لذلك كان لا بدّ أنّ يصطفي الله من الملائكة رسلاً؛ ليبلغوا منهجهُ إلى رسله المصطفين من البشر؛ لأن رؤية الله تعالى في الدنيا لا يتحملها بشر.

هل رأى موسى عليه السلام ربه؟

إن قوله تعالى: “لَنّ تراني” ومعناه أنّك ياموسى ما دمت على هيئتك البشرية في الدنيا، فإنك لن تراني، ثم يعطيه الله تعالى الدليل على أن طبيعة موسى البشرية لا تتحمل رؤية الحق سبحانه وتعالى، فيقول: “وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا” الأعراف:143. لماذا قال تعالى: “أنظر إلى الجبلِ”؛ لأن الجبل مفروضٌ فيه الصلابة والقوة والثبات والتماسك، والجبل بحكم الواقع وبحكم العقل، أقوى من الإنسان وأصلب منه ملايين المرات، والله تعالى يقول لموسى عليه السلام: “فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا” والدّك هو الضغطُ على الشيء من أعلى؛ ليستوي بشيءٍ أسفل منه، كأن يكون هناك منزل عالٍ مثلاً وتدكهُ أي تسويه بالأرض، ومن علامات يوم القيامة، يقول الله تعالى: “كلّا إذا دُكتُ الأرضُ دكّاً دّكّاً” الفجر:21.
أي أصبح كلّ ما عليها مساويّاً لسطحها، فلم يعد عليها شيء قائم، وقول الحق سبحانه وتعالى: “فلّما تجلى ربّهُ للجبل” نعرف منه أن الله تعالى قد تجلى على خلقهِ، ولكن ولكن هل المتُجلّى عليه يقدر على تحمل هذا التجلي أم لا يقدر؟ من الممكن أن يتجلى الله على بعض خلقه، ولكن المهم أن يقوى المستقبل للتجلي على تحمل ذلك، ولكن الجبل الذي هو أصلب من الإنسان ملايين المرات، لما تجلى الله عليه، لم يقوّ على استقبال تجلي الله.


شارك المقالة: