عيسى عليه السلام شهيداً على بني إسرائيل:
يقولُ الحق تعالى على لسان عيسى عيسى عليه السلام: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” المائدة:117.
لقد قرر إنّ عيسى عليه السلام لم يُبلغ قومهُ إلا ما أمرهُ الله ببلاغهِ، وأنهُ دعاهم إلى عبادة الله كربٍّ له وربٌ لهم جميعاً، وعيسى شاهدٌ عليهم في كلّ تصرفاتهم وهو موجودٌ بينهم، والشهيد كما نعلم هو الذي يشهدُ السلوك ولا يقدر أن يمنع الناس المشهود عليهم عن فعل ما يفعلونه.
وحينما يتوفاهُ الله، يكون الحق سبحانه وتعالى هو الرقيب عليهم، والرقيب: هو الشاهد الذي يُقدر أن يمنع الحدث، والحقُ رقيب ويُقدر أن يمنع الناس عما ارتكبوا من المخالفات؛ كأن يبعث لهم من يذكرهم، ليهديهم أو يكفُ أيديهم، وهكذا نعرفُ أن هناك فرقاً بين مشهدية الخلق ورقابة الحق، ولذلك قال تعالى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ“.
إنه لا يترك المسألة لشهادة الخلق فقط، ولكن لرقابته أيضاً، ويؤكد ذلك بتذليل الآية الكريمة: “ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ“.
إنّ الحق الذي يشهدُ ويقدر أن يفعل ما يُريد، ومسألة الرفع كما نعلم هي الأخذ كاملاً دون نقض في البنيةِ بالقتلِ أو الموت، ونحن المسلمين نعرفُ أنّ الحق رفعَ محمداً عليه الصلاة والسلام بالإسراء والمعراج إلى السماوات وعاد إلينا مرةً أخرى؛ من أجلِ إكمالِ رسالتهِ، فنحنُ نصدقُ أمرَ رفع عيسى إلى السلام وأنهُ سوفَ يعودُ مرةً أخرى ليُصلي خلفَ مؤمنٍ بالله وبمحمدٍ رسول الله.
إنّ أمرَ الرفعِ في الإسلام مقبولٌ؛ فقد رفعَ اللهُ رسوله محمد صلّى الله عليه السلام ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار الحوار بينه وبين يحيى عليه السلام، وآدم عليه السلام وفرض الله الصلاة على أمة المسلمين في تلك الرحلة، وهكذا تعرف أن مسألة صعود الإنسان بشحمهِ ولحمه إلى السماء أمر وارد، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ. إنّ الله تعالى أراد بالقرآن رحمة بالخلق؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من الأحكام.
إنّ الله يأتي به في أسلوبٍ لا يُسبب الفتنة، فإذا صَدّقنا أن عيسى عليه السلام رُفع، فلن يزيد ذلك علينا حُكماً ولن ينقض حكماً، ولذلك جاء الله تعالى جلّ جلاله بمسألة الإسراء بنصٍ قطعي، أما مسألة المعراج فهي آية سماوية. وقد وصفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدس لمُشركي قريش؛ فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” الإسراء:1.
لقد جاءت آية الإسراء نصاً؛ لأنهُ آيةً أرضية، أما الآية السماوية ألا وهي المعراج فأتت التزاماً، وكذلك أمرَ برفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن القدرة المُطلقة لله فهو يصدق ذلك، ومن يقف عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يُخرجك عن الإيمان واليقين وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة:وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ” الأنعام:61.
واللهُ تعالى يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الزمر:42. ونعرفُ أن الموت يُقابلهُ القتل أيضاً، فقد قال الحق: “أفأين مّاتَ أو قُتِلَ” إن الموت هو خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح، وقد قال المسيح ابن مريم كما بين ربنا: “فلمّا توفيتني” أي أخذتني كاملاً غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع، ونعلم أنّ كل ذلك سيكون مجالاً للحوار بين عيسى ابن مريم وبين الحق سبحانه يوم المشهد الأعظم. وعيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنهُ مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعهُ الله إليه فإن الرقابة على القوم تكون لله، وقد قسم المسألة بينهُ وبين ربه، فالله تعالى شهيداً دائماً ورقيب دائماً، ولكن عيسى ببشريتهِ يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير فسبحان الذي يُغير ولا يتغير.