لاقى نظم الكلام رواجاً واهتماماً هائلاً في الأندلس، وكان له دور كبير في مواكبة المجريات التي تتم في البلاد متأثرة ومُأثرة في جميع المراحل والمستجدات، حيث كان له دور بارز في المجتمع مصوّرة المجريات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية، وتم ازدهاره بسبب عوامل كثيرة آنذاك، وفي هذا المقال سنتناول أسباب تطور الشعر في ذلك العصر.
أسباب تطور الشعر الأندلسي
تكاتفت الأسباب التي ساهمت في تطور الكلام المنظوم في الأندلس وقد لاقى اهتماماً منقطع النظير من أهل الأندلس، حيث كان له أهله المتمرسين البارزين في هذا المجال حيثُ كان لهم نتاج هائل مميز استطاع أن يغطي حياة المجتمع الأندلسي بكافة طبقاته.
استطاع الشعر أن يواكب المجريات الطارئة آنذاك وكان له أهله الذين سطعوا في سماء بلادهم في هذا المجال، وما زالت آثارهم خالدة، ويتم تداولها بين الأجيال حتى يومنا هذا، وفيما يلي أهم أسباب ازدهاره وتطوره في ذلك العصر الذهبي:
1- البيئة الاجتماعية: تأثر الشعر في ذلك العصر في البيئة الاجتماعية في الأندلس، وتأثر بأهلها وعمالها الذين بنوا مجدها وعمروها وهم أنفسهم متذوقي البيان والجمال أهل الخبرة والحكمة، ومن أشهر الأقوال المأثورة التي تحدثت عن ذلك قول المقرئ: “وأما حال أهل الأندلس في فنون العلم، فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً عالةً على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح، والعلم عندهم معظم من الخاصة والعامة، يشار إليه ويُحال عليه، وينبُه قدره وذكره عند الناس ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك”.
2- الطبيعة الأندلسية: نقصد بها المناخ المعتدل، والجو الرطب، والجبال والتلال الخضراء والأشجار ذات الأغصان المتمايلة والقطوف المتدلية، والبحار وما يجري فيها من أنهار وجداول التي تسلب العقول، وتأسر القلوب بجمالها، وعن ذلك يتحدث المقرئ ويقول: ” وقال الرازي ما نصه: إن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة، التي هي معمور الدنيا، فهي متوسطة من البلدان، كريمة البقعةِ بطبع الخلقة، طيبة التربة، مخصبة القاعة، منبسجة العيون الثرار، متفجرة بالأنهار الغزار قليلة الهوام ذوات السموم، معتدلة الهواء أكثر الأزمان، لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضرُّ بالأبدان، وكذا سائر فصولها في أعم سنيها تأتي على قدر من الاعتدال، وتوسط من الحال، وفواكهها تتصل طوال الزمان فلا تعدم.”
3- التحدي الأدبي بين المشرق والأندلس: سعت الأندلس جاهدة في المنافسة في الآداب والعلوم والفنون بكل ما تملك من عزم واجتهاد، وَبذلت أقصى جهدها من أجل الاستقلال، والابتعاد عن التقليد في جميع المجالات، فنرى التميز والتفرد العمراني، وفي التجارب الأدبية والشعرية لا تختلف عن المشرق بشيء، والمحاولة الجاهدة لتفرد عنه والتميز في مجالات شتى.
4- وعي الملوك والأمراء بأهمية الشعر: حيث كان ملوك الأندلس يتمتعون برؤية ثاقبة وذوق رفيع، فقد اهتموا بالشعر وعرفوا قيمته وكيف يجذب العقول ويسخر القلوب، واتخذوا منه طريقة لتثبيت ركائز ملكهم، وازدهار بلادهم، وكان المشرق قدوتهم في ذلك، وكانوا يستقطبون، الشعراء ويقربونهم منهم مُجزلين لهم العطاء.
ومن هذا المنطلق تتوضح فطنة أهل البلاد وشغفهم بالشعر والفنون فنرى منزلة الشعراء تعلو وترتفع لتصل عنان المجد والمنزلة الرفيعة بين علوم وأدب وشعر الشعوب المختلفة التي تقطن أرضها أو تجاوزها، وظهر نخبة من أهل البلاد في نظم الكلام وساعد على انتشاره وازدهاره، تاركين بصماتهم حاضرة على ذاك الشعر حتى زمننا هذا، ومنهم ابن سهل، وابن حزم وابن باجة، وابن خفاجة ولسان الدين الخطيب وابن الأبار وغيرهم الكثير.
ولن ننسى دور الشواعر الأندلسيات اللواتي أحدَثن تأثير كبير على الشعر الأندلسي، وكان لهنَّ بصماتهن الواضحة آنذاك في جميع أغراض الشعر وخصوصاً في مجال الغزل، ومثال عليه ما نظمته الأميرة الشاعرة ولادة في حبيبها ابن زيدون، وكذلك حسّانة التميمية وهي من غرناطة وكانت مشهورة بقصائد المدح، ومنهن أيضاً لبنى شاعرة في بلاط المستنصر، وَحفصة بنت حمدون، وأم علاء البربرية التي يعود أصلها إلى الأمازيغيين، ومن اشعارهن الرائعة التي غزت العصور وأثبتت ألقها وتألقها إلى الآن ما كتبته ولادة حيث تقول:
ترقّب إذا جَنّ الليل زيارتي
فإني رأيتُ الليل أكم للسرّ
ولي منك ما لو كان بالشمس لم تلح
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسرِ
وفي النهاية نستنتج أن الشعر الأندلسي مرَّ بالعديد من المُجريات التي أدت إلى ازدهاره والنهوض به، وجعله نجماً يسطع في سماء الآداب والفنون المختلفة.