صاحب المقولة
نَصر بن حجّاج بن علّاط بن خالد بن ثُوير بن حنثر بن سُلَيم بن منصور السُّلَميّ ثمَّ البَهزيّ. وكان من أبناء الصحابة.
اشتُهِرَ بجمالهِ الفائق، وقيل أنَّ عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_، سَمِعَ وهو يَعُسُّ بالليلِ امرأةً تقول:
هلْ من سبيلٍ إلى خَمرٍ فأشربَها** أو من سبيلٍ إلى نَصرِ بن حجّاجِ.
فلمّا أصبحَ سأل عنه؛ فإذا هو من بني سُلَيم، فأرسلَ إليهِ فأتاهُ فإذا هو أحسن النّاسِ شَعراً، وأحسَنُهم وجهاً. فأمرَ عُمر أنْ يَحلِق شَعرهُ، ففعل؛ فخرجَت جبهتهُ فازدادَ حُسناً. ثمَّ سَمِعَ عُمر المرأة تقول بعد ذلك:
حَلقُوا رأسهُ لِيَكسبَ قُبحاً*** غِيرةً منهم عليهِ وشُحّا كانَ صُبحاً عليهِ ليلٌ بَهيمٌ*** فَمَحَوا ليلهُ وأبقوهُ صُبحَا
فنفاهُ عُمر إلى البصرة، وأقسمَ أنّهُ لا يدخل المدينة المنورة أبداً ما دامَ فيها.
قصة المقولة
قِيلَ أنّهُ كانت إمرأةٌ تعيش في المدينة المنورة، وكان اسمها الذَّلفاء، وقد عشقت فتىً من بني سُلَيم يقال له: نَصر بن حجّاج، وكان أحسن أهل زمانهِ صُورةً؛ فَضَنِيت من حُبّهِ وَدَنِفَت{ أي مَرِضت واعتلّت} من الوَجدِ والحُبّ لهُ، ثمَّ لَهِجَت بذكرهِ، حتى صار ذِكرهُ هَجِيرها. وقِيل أنَّها دعتهُ إلى نفسها فأبى ذلك.
فَمرَّ عمر بن الخطاب ذات ليلةٍ ببابِ دَارهَا؛ فسمعها تقولُ رافعةً عَقيرتَها:
هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربَها** أو من سبيلٍ إلى نَصرِ بن حجّاج.
فقال عمر_ رضي الله عنه_: مَن هذه المُتَمنّية؟ فَعُرّفَ خبرها. فلمَّا أصبحَ أحضرَ الفتى المُتمنّى، فلمّا رءاهُ بهَرهُ جَمالهُ، فقال له: أأنت الذي تَتمنّاك الغانياتُ في خُدورهِنّ؟ لا أمَّ لك! أمَا واللهِ لأُزيلنَّ عنك رِداء الجَمال، ثمَّ دَعا بِحجّامٍ فَحلقَ شَعرَهُ الجميل، ثمَّ تأمّلهُ فقال له: أنتَ مَحلوقاً أحسَن، فقال: وأيُّ ذَنبٍ لي في ذلك؟ فقال: صدقت، الذَّنبُ لِي أنْ أترُكك في دار الهجرة. ثمَّ أركَبهُ على جَمَلٍ وسيّرهُ إلى البَصرة، وكتب إلى” مُجَاشع بن مسعود السُّلَميّ”، كتاباً يقول فيه:” إنّي قد سيّرتُ المُتَمنّي” نَصرَ بن حجّاج” إلى البصرة، فإنّهُ قد استَلبَ نساء المدينة”. فضَربنَ بها المثل، وقُلنَ:” أصَبُّ من المُتَمنّية”.
ولمّا وصلَ” نصر بن حجّاج” البَصرة، أخذَ الناس يسألونَ عنه، ويقولون: أين المُتمنّي الذي سيّرهُ عُمر_ رضي الله عنه_؟ فأنزَلهُ” مُجَاشع بن مسعود السُّلَميّ” منزِلهُ من أجل قرابتهِ، وأخدَمهُ امرأتهُ شُمَيلَة؛ وكانت أجمل امرأة في البَصرة، فَعَلِقتهُ وعَلِقهَا.
وخَفِيَ كلُّ واحد منهما على خبر الآخر، لملازمة مُجاشع لضيفهِ، وكان مُجاشع أمّيّاً، ونَصر وشُميلة كاتِبَين. فَنَفذَ صبر نَصر، فكتب على الأرض بحضرةِ مُجاشع: إنّي قد أحببتُكِ حُبّاً لو كان فوقكِ لأضلّكِ، ولو كان تَحتكِ لأقلّكِ؛ فوقّعت تحتهُ غير محتشمة: وأنا.فقال لها مُجاشع: ما الذي كَتبهُ؟ فقالت: كتب كم تحلُب ناقتكُم؟ فقال: وما الذي كتبتِ أنتِ؟ فقالت: كتبتُ وأنا. فقال مُجاشع: كم تحلب ناقتكُم، وأنا؟! ما هذا لهذا بِطَبَق. فقالت: أصدُقكَ إنّهُ كتبَ كم تَغلُّ أرضكم؟ فقال مُجاشع: كم تَغلُّ أرضكم، وأنا! ما بين كلامهِ وجوابكِ قرابة.
ثمَّ كَفأَ على الكتابة جَفنةً( وعاء كبير)، ودعا بغلامٍ من الكُتّاب، فقرأ عليه، فالتفتَ إلى نَصر فقال له: ما سيّركَ عُمر من خيرٍ فَقُمْ، فإنَّ وراءكَ أوسع. فنَهضَ مُستَحيياً، وعدَلَ إلى منزل بعض السُّلَميّين، ووقعَ لِجنبهِ فَضَنِيَ( أي مرِض) من حبّ شُمَيلة.
وانتشرَ خبرهُ، فَضَربنَ نساء البصرة به المَثل، فَقُلنَ:” أدنَفُ من المُتَمنَّى”، ثمَّ وقف مُجاشع بن مسعود على خبر علّةِ نَصر بن حجّاج، فدخلَ عليه فلحِقتهُ رِقّةً في قلبهِ لِمَا رأى بهِ من الدَّنَف. فرجع إلى بيتهِ وقال لِشُمَيلة: عَزمتُ عليكِ أنْ تأخذي خُبزةً، فَلَبَكتِهَا بسمنٍ ثمَّ بادرتِ بها إلى نَصر، فبادَرَت بها إليه، فَلم يَكُن به نُهوض، فَضمَّتهُ إلى صدرها، وجعلت تُلقّمهُ بيدها، فعادت قُواهُ وبرأَ كأنْ لمْ بهِ مَرض. فقال بعض عُوّادهِ وزُوّارهِ: قاتل الله الأعشى، فكأنّهُ شَهِدَ منهما النَّجوى، حيث قال:
لو أسْنَدَتْ مَيتَاً إلى صَدرِهَا*** عاشَ ولَمْ يُنقَل إلى قَابرِ.
وقد طال مُكث نَصر بن حجّاج بالبصرة، فخرجت أمّهُ يوماً بين الأذانِ والإقامَة مُعتَرضةً لِعمر، فإذا عُمر قد خرجَ في إزارٍ ورداء وبيدهِ الدِّرّة( العصا)، فقالت له: يا أمير المؤمنين، والله لأقِفَنَّ أنا وأنت بين يدي الله عزَّ وجل ولَيُحاسِبَنّك؛ أيَبيتنَّ عبدالله وعاصم( أولاد عُمر) إلى جَنبكَ، وبيني وبين ابني الفَيافي والأودية. فقال لها: إنَّ ابناي لم تَهتف بهما الهواتف في خُدورهِنّ.
ثمَّ أرسل عُمر بريداً إلى البصرة، وكان عاملهُ فيها بعدَ مُجاشع بن مسعود؛” عُتبة بن غزوان”، فأقام أيّاماً ثمَّ نادى عُتبة وقال: من أرادَ أنْ يكتب إلى أمير المؤمنين فليكتب، فإنَّ البريد خارجٌ إلى المدينة.
فكتبَ نَصر بن حجّاج: بسم الله الرحمن الرحيم، سلامٌ عليك، أمَّا بعد يا أمير المؤمنين:
لَعَمري لئنْ سَيّرتنِي أو حَرمتنِي** وما نِلت من عِرضي عليك حرامُ.
فأصبحتُ منفِيّاً على غَيرِ ريبةٍ** وقد كان لي بالمَكتين مُقامُ
أإنْ غنّت الذَّلفاء يوماً بِمُنيةٍ** وبعضُ أمانيِّ النّساء حرام
ظننتَ بي الظّنَّ الذي ليس بعدهُ** بقاءٌ ومالي جُرمة فأُلامُ.
فيمنعني مِمّا تقول تكرّمي** وآراء صِدقٍ سابقونَ كِرام.
ويمنعها ممّا تقول صلاتها** وحَال لها في قَومها وصيامُ.
فهاتانِ حالانا فهل أنتَ راجعي** فقد جُبَّ مني كاهلٌ وسنامُ.
فلمّا قرأ عُمر الكتاب قال: أمَا ولِي السلطان؛ فلا. فأقطعهُ داراً بالبصرة وداراً في سُوقها. فلمّا استُشهد عُمر رَكِب نَصر بن حجّاج ناقتهُ وعادَ إلى المدينة.