إنْ مَلَكَ بالشَّامِ حِصنَاً واحِداً مَلَكَ بِلادَكُم جَميعَاً

اقرأ في هذا المقال


يَضَعُ مائدَةَ الطَّعام ويَجلِسُ بِرفقَةِ قَادةِ جيشهِ ويقول:” لا يأكُل معي على هذه المائدة إلّا مَن يَطعَن معي غداً بابَ الرَّها؛ ولا يَفعلُ ذَلكَ إلَّا أشْجَعُ الناس، فلمْ يَجلِس معهُ على المَائدة إلَّا أميرٌ واحدٌ وصبيٌّ صغيرٌ؛ فقال الأمير للصَّبيّ: “مَا أنتَ في هذا المَقَام؟”. فقال له عماد الدِّين زِنكي القَائد المُربِّي القُدوَة، الذي يعرف كيف يُحَمِّس الشَّباب والنَّشء، ويُحَفِّزُ طَاقَاتهم: “دَعُوهُ فوالله إنّي أرَى وَجْهاً لا يَتخَلَّفُ عنِّي”. فكَانَ الصَّبي، فكان أوَّلَ طَاعنٍ، وأوَّلَ بطلٍ في هذه المعركة.

صَاحِبُ المَقولة

مَقُولةٌ صَدَحَ بها رائدُ الجِهاد الإسلاميّ في بلادِ الشّام؛ عِماد الدِّين زِنكِي بن آقْ سُنقُر بن عبد الله، رَائد الجِهاد الإسلامِيّ ضدَّ الوجودِ الصَّليبيّ بالشَّام؛ قَائدٌ عَسكريّ، وحَاكم مُسلم، تُركِيّ الأصل، حَكمَ أجزاءً مِن بلادِ الشَّام وحَاربَ الصَّليبيّين، كانَ شَديدُ الهَيبَةِ، عظيمٌ في السِّياسَة، كان الأَقوياء يَخَافونهُ، عَمَّرَ بلاد الشّام وكانت قَبلهُ خراباً، وكان النّاس في زَمانهِ ينعَمُونَ بأنعَمِ عَيش.

بعد أن ظنَّ الجميع أنَّ الصَّليبيّين لَنْ يَخرُجوا أبداً من بلاد الإسلام، أَطَلَّ رجُلٌ من حاضِرَةِ بلادِ الشَّام وقامَ بِكَسرِ أسطُورةِ الصَّليبيّين الذين لا يُقهَرون، فَقَدْ كان وَالِدُ عِماد الدّين( آقْ سُنقر بن عبدالله) من الثّمَراتِ الطَّيّبة لاهتِمَامِ الوزيرِ العظيم (نِظَام المُلْك) في فتْرَةِ وزَارتهِ لِسَلاطِين السَّلاجقة العِظَام،{أَلْبْ أرسَلَان وَولدهِ مَلِك شَاه}، فقد كانَ هذا الوَزِير حَرِيصاً على استعمَالِ الأَكِفَّاء وأصحاب العِلم والعَقْلِ والفَهمِ في المَناصبِ المُهمَّة والقِياديّة، فَلَمَعَ وسَطَعَ نَجمُهُ، وكانت لهُ مَكانةً عَظيمة عندَ السُّلطانِ السُّلجُوقِيّ(مَلك شَاه)؛ حتّى إنّه قد جَعلهُ والياً على حَلَب في الشَّام، وقد قُتلَ هذا القَائد في دِفاعهِ عنِ الدَّولةِ السُّلجُوقّية ضدَّ الخَارجينَ عليها، ولم يَترُك ورَاءهُ سِوى ولدٍ صَغِير في العَاشِرةِ من العُمر؛ هو عماد الدين زنكي.

عِماد الدّين زِنكي أميراً للمُوصل

تدورُ الأيّام ويَتَولّى الأميرُ (كَربُوغَا) أميرِ المُوصلِ تَربِية عِماد الدين زِنكي، ويَرعاهُ ويُعلِّمهُ فُنونَ الفُروسيّة والقِيادة والقِتال، ويَترقَّى في سِلكِ الجُنديَّة وفي المَناصِبِ حتى صارَ مُربّي لِلأميرَينِ {ألْب أرسلان وفَرُوخ شاه}، أبناء السّلطان محمود؛ سُلطان السَّلاجِقة في وقْتهِ، وأعطاهُ لقب (الأتابِكْ)، أي: مُربِّي الأمير. وَيُتوفَّى أمَير المُوصلِ ويُحاولُ بعض المُنتَفِعينَ تَولِيةِ وَلَدهِ الصَّغير مَكَانه، ولكنَّ قَاضِي الموصل (بَهاء الدِّين الشَّهْرَزُورِي) ذهبَ إلى السُّلطانِ محمود وطلب منهُ تَعيينِ أمِير قَويّ وكُفْءٍ للمُوصل، التي كانت تَقعُ على حدود الشام المُلتَهِبة حيث الوجُودِ الصّليبيّ الكَثِيف في سَواحِل الشَّامِ منذُ ثلاثين سنة، والذي أسْفرَ عن قِيام أربعِ مَمَالكٍ صَليبيَّة هِي(أنْطَاكيَة ـ الرَّهَا ـ طَرابُلس ـ بيت المَقدِس) في الشام، وبعد تفكيرٍ عميقٍ يُقَرِّر السُّلطان محمود أن يُسندَ ولايةَ المُوصل وأعمَالهَا إلى عماد الدّين زِنكي، وكانت ولايَتهُ على المُوصل سنة (521هـ= 1127م).

كانت الأوضاع على الجَبهةِ الشّامية ذَاتَ صُورةٍ قَاتِمة؛ فالصَّليبيّون قد احتَلُّوا مُعظَم سَواحل الشَّام، وأقاموا أربع إماراتٍ صَليبيّة بالشام وكانت المُدن والحُصون التي تحت حُكم المسلمين تُعانِي من الفُرقة والإختِلاف والتَّنافُر، ورُبَّما التَّقاتُلِ فِيما بينها، فكلُّ والٍ على مدينة يتعامل فيها كأنه ملك مستقلٌّ عن سائر البلاد، وأغلبهم بَلْ كُلّهم يَتَّقِي شَرَّ الصّليبيّين ويَتحَاشَى الصِّدام معهم؛ خوفاً على ضَياع مُلكِه.

ومن جِهةٍ أخرى كانَ الخِلاف على أشُدِّه بين أُمَراءِ البيتِ السُّلجوقيّ بعضهم مع بعض، وظَهر خلافٌ جديد بيت السلطان السُّلجوقي وبين الخليفة العبّاسيّ المُستَرشِد بالله. في ظِلِّ هذهِ الأوضاع كُلّها قرَّر عماد الدّين زِنكي، القيام بعملٍ لمْ يَسبقهُ فيه أحدٌ، فوضعَ نُصْبَ عَينيهِ هَدفاً عظيماً كان حُلُماً فأصبحَ حقيقة، فَقرَّر تَحرير بلاد الشَّام من الوجُود الصّليبي. فَبدأَ ببناءِ الجبهةِ الداخليّة وبناء جيشٍ إسلاميّ قويّ؛ فكانت مهمَّتهُ الأولى هي أصعب مرحلة في مَراحلِ الإنتِصار.

فَتح حَلَب على يَد عماد الدّين زِنكي

يُصَوّبُ نَظَرهُ تِلقاءَ حلب فيبدأ عماد الدين زنكي بهذهِ المدينة المُهمَّة في المنطقةِ الشَّمالية من بلاد الشّام في غُرَّةِ المحرم سنة 522هـ؛ أي بعد شهورٍ قليلةٍ من ولايته على الموصل؛ وهذا إنْ دَلَّ على شيءٍ فإنّمَا يَدُلُّ على أنَّ الرجل كانَ يَملكُ خطَّةً شَاملةً ومُعَدَّة سَلَفاً لِحَركتهِ بأرضِ الشام، ولم يكُنْ ضَمُّه لمدينة حلب بالشَّيء السَّهل؛ فلَقَد ظَلَّ مُحاصِراً لها عِدَّة شُهور قبلَ فَتحها، وكان عليها بعض الطامعين المتغلِّبِينَ، ثُمَّ قامَ بعدهَا بِضَمِّ مدينة حَمَاة، ثمَّ فَتحَ “حِصن الأثَارِب” وكان بيدِ الصّليبيّين، ثم انشغل عماد الدين زنكي بالخِلافاتِ العَنيفَة بين الخليفة المُستَرشِد والسُّلطان السُّلجُوقيّ مَسعود عِدّة سنَوات؛ ثُمَّ عادَ يفتحُ المُدن، ويَضمُّ القِلاع والحُصون، فضَمَّ حُصونَ الأكراد وقلعة الصُّوْر، وواصَلَ سَعيَهُ حتّى استقامت لهُ مناطِق “دِيَار بَكر وإقليم الجبال” سنة ( 1134م). فاستقَامَت مُعظم بلاد الشام لعِماد الدين زنكي؛ عَدا ما كان بِيدِ الصَّليبيّين وفتحِ دِمشق قلبُ الشّام وحاضِرتُه، فَقد حاول ضمَّهَا لكنّهُ فَشِلَ، وبَقيت خارجَ سيطَرتهِ. ولمَّا ازدَادَت قوَّة عماد الدين زنكي في حلب، وثَقُلَت وَطأتهُ على الصّليبيّين في الشَّام، فَكَّرُوا في الإستِعانَة بإمبراطور القُسطَنطينيّة( عَمانُوئيل)، رُغمَ الإختلافِ المَذهبيّ بينهم؛ فَهُم كَاثُوليك وهو أرثُوذكسِي، فَهُم في النّهاية صَليبيّون، فَوافقَ “عَمانُوئيل” على نَجدَتهِم. فهذا الإمبراطور عندما جآء إلى بلادِ الشّام اختَرقَ آسيا الصُّغرى، ولمْ يَقدر أحَد من سلاجقة الرّوم على إيقافِهِ؛ فاستَولى على مدينةِ(بَزاعَة) فقتلَ رجالهَا وسبى نِساءهَا؛ فوقعَت الشّام بين إمبراطور بِيزنطَه والصّليبيّين الفِرنجَه الشام.

بَرَزَت هنا العَقلِيّة الحَربيّة والذَّكَاء العَسْكَريّ لهذا الرّجل الذي نَظَر وتَمَعّنَ في هذه النَّازِلة الصَّعبَة التي نزَلت بالمُسلمين. فيقومُ عماد الدّين زِنكي العمل في اتّجَاهَينِ: عَمِلَ في الإتّجاهِ الأوّل على مُناوَشةِ إمبراطور بِيزنطة بشنِّ حَربِ عِصابات على مُعسكَره باستخدامِ المُجاهِدين المُتطوّعِين في الشَّام ضِدَّ الأعداء بالكَرِّ والفَرِّ، وإظهارِ القُوَّة والشَّجاعة، وإرسال رَسائل تَهديدٍ ووعيدٍ لهذا الإمبراطور؛ على الرّغمِ من الفَارق الضَّخم بين القُوَّتين، وذلك من أجل تَخويفِ البِيزنطيّين ومنعهم من التقدُّم نحو المُسلمين. وعمِلَ في الإتّجاه الآخَرِ ، وهو الإتّجاه الذي يدورُ عليهِ حدِيثنَا في هذا المَقالِ عن القائد عماد الدين زنكي وكَلِمتهِ الشّهيرة التي ذُكِرت في بدايةِ المقال. فكان إتّجَاههُ يقومُ على إيقاعِ الخِلاف بين البِيزنطيّين والفرنجة؛ فلقد كانَ هذا الرّجُل العِملاق مِن دَواهِي العَصر ذكاءً وفطنةً وحِدَّة وبَصِيرة، فلقد استغلَّ الخلافَ المَذهَبِي بين الأرثوذكس والكاثوليك للتفريق بينهما، فأرسلَ إلى إمبراطورِ بيزنطة يُخَوِّفُهُ من نُكْصَان الفِرنجة للعهود ونَقضِهِم لها، وأنَهم يَتربَّصُون به، فإن فَارَقَ مَكانه الذي فيه، (قَلعة شِيزَر) بالقُربِ من حَمَاة سَيتخَلَّفُون عن نُصرَتهِ. ثُمَّ أرسلَ إلى الصَّليبيّين الفِرنجة يُخَوِّفُهم من إمبراطور بيزنطة، ويقول لهم: “إنْ مَلَكَ بالشّام حَصناً واحداً مَلَكَ بِلادَكم جميعاً“؛ وَنَجَحت خُطَّة عماد الدين زنكي؛ ووقَعَ الخِلاف بين الطَّرفين، وانسحب الإمبراطور من الشَّام، وتركَ المَجانيق وأسلحة كثيرة بِحَالتها؛ حيثُ غَنِمها جيش الشّام، وحرَّرُوا أسرى المسلمين، وارتفعت مَكانة عِماد الدين بين المُسلمين، وعَظُمَت هَيبتَهُ في صُدورِ الصَّليبيّين، وأثبت للجميع أنه رَجُل المَرحَلة.

إمِارة الرَّها إمارة إسلامية، بعدَ أنْ كانت صليبيّة

بعدَ ذلكَ حاولَ فتح دمشق؛ ولكنّه فَشِل لِحصَانتهَا وقُوَّةِ حَاكمهَا “مُعين الدّين أنر”، فَلَمْ يستطع عماد الدين تحقيق حُلْمه في أهمِّ مُدن الشَّرقِ دِمشق. فاتّجهت أنْظَارهُ إلى فتحِ إمارةِ الرَّهَا؛ وكان يحكُمهَا أميرٌ صليبيً اسمه (جُوسلين)؛ فَفَهِمَ من تَحرُّكات عماد الدين زنكي أنه يُخَطِّط لفتح إمارةِ الرَّها، فَعَمِدَ إلى تَقوية دِفاعَاتهَا، والمُبالَغة في تَحصِينهَا، وظلَّ مقيماً في الرَّها لا يُفارقها أبداً؛ رغم أنَّ زوجته وأولاده كانوا بفرنسا، ولكنَّهُ صَبر على فُراقِهم من أجل الدفاعِ عن الرّها. فأوهَمَ عماد الدين زنكي جوسلين حاكم الرّها بأنّهُ مَشغولٌ بحربِ القبائل الكُرديّة، التي تُسيطر على قلاع كثيرة في منطقة دِيارِ بَكر (جنوب تركيا الآن)، ولا تقبل الانضمام لصفِّ عماد الدين زنكي لدَواعِي عَصبيّة وقَبليّة، وانطَلت هذه الخُدعَة على جُوسلِين، الذي خفَّف من شدَّة التَّحصينات، وتراخَى في دِفاعَاته، حتّى إنَّه قَد سافرَ لزيارةِ أهلهِ في فَرنسا، وكان عماد الدّين زِنكي قَد بَثَّ العُيون التي تَنقلُ له الأخبار ليلَ نهارَ، فلمَّا علم بِمُغادرة جوسلين، نَادى في مُعسكَرِ جَيشهِ بالإستعدادِ للهُجومِ على الرَّها وقد تمَّ فتحُ هذه المدينة سنة 1144م), وكان لفتحها صدىً شديداً في العَالَمين الإسلامي والصّليبي؛ فلقد كان أعظم انتصار حقَّقه المسلمون على الصليبيين منذُ دخولهم الشام منذ خمسين سنة.

إستشهَاد رائِد الجِهاد الإسلامي عماد الدين زنكي

بعدَ انتصَارِ عماد الدين زنكي في إمارةِ الرَّها ضَاقَت السُّبُل على أعداء الإسلام، وأصبحَ كَيانَهم الصَّليبي بالشام -والذي بنَوْهُ في خمسين سنة- في خطرٍ حَقَيقيّ في ظلِّ وجود هذا القائد الفَذّ، والمُقاتِل العظيم، وبعد أنْ أعْيَتُهم الحِيَل في مَيادين القِتال، وصار عماد الدين ينتصِرُ عليهم في كلِّ المَواطِنِ في الشّام ، قَرَّرُوا اللجوء إلى سلاحِ الغَدر والخِيانة؛ ففكَّرَ الصليبيون في كيفية التخلُّص من عماد الدين زنكي، وبعد تَفكيرٍ وتَقلِيبٍ فيمَنْ سيقوم بهذه المهمَّة؛ قرَّرُوا إسناد مهمَّة الاغتيال إلى جماعة من الفِرقَة الباطِنيّة، وفي أثناءِ قيام عماد الدين زنكي بحصار قلعة (جَعبَر) المُطلَّة على نهر الفرات، قامت هذه المجموعة بالإتِّفاق مع الصّليبيّين -بعد أن قبضوا الثمن- وتَسَلّلوا إلى مُعسكر عماد الدين زنكي، واندَسُّوا بين حُرَّاسه، وفي الليل دخلوا عليه خيمته وهو نائم وقتلوه، وتُوُفِّيَ رحمه الله تعالى عن 64 عامًا، ودُفن بصفين، وخَلَفَهُ ابنه (سيف الدين غازي) في الموصل، وخَلَفَهُ ابنه (نور الدين محمود) في حلب ثم في دمشق. واستُشهِدَ هذا الفَارس وحطَّ الرّاكب عن جوادهِ، بعد حياةٍ طَويلة كُلّها جِهاد وكِفاح ونُصرة للإسلام وأهله.

المصدر: الكامل في التاريخ ابن الأثير


شارك المقالة: