مي زياده_ جبران خليل جبران
“جبران، لقد كتبتُ كلَّ هذه الصفحات؛ لِأتَحايَدَ كلمة الحُبِّ، إنَّ الذين لا يتاجرون بمظهر الحُبِّ، يُنمِّي الحبُّ في أعماقِهم قوةً ديناميكية رهيبة، قد يغبطونَ الذين يوزِّعون عواطفَهم في اللاء السطحي؛ لأنهم لا يُقاسونَ ضغط العواطف التي لم تنفجر، ما معنى هذا الذي أكتبه؟، إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنِّي أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحُبّ، أقول هذا مع علمي بأنَّ القليل من الحبِّ كثير، كيف أجسر على الإفضاء إليكَ بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري! الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به؛ لأنَّك لو كنت حاضرًا بالجّسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.
مي
أنا أعلم أن القليل من الحُبّ لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحُبّ لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كلَ شيء، نحن نريد الكمال، أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شكّ على نور من أنوار الله، لا تخافي الحبّ يا ماري، لا تخافي الحبّ يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الألتباس والحيرة. اسمعي يا ماري، أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت، وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النّهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرّين طليقين نحو قمة جبالنذذذذذذذذذا؟
جبران
لقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف، أقول التعنيف لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحتُ لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها، ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبهِ سحابة في سماءٍ صافية مرصعة بالنجوم؟ وكيف لا أقبل وخزةً صغيرة من يدّ عطرة مفعمة بالجواهر؟ إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتابٍ أو مناظرة، فأنا أقبل بكلّ ما تقولينه لأعتقادي بأنه يجمل بنا، وسبعة آلف ميل تفصلنا ألا نضيف متراً واحداً إلى هذه المسافة الشّاسعة، بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجّميل والشّوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد . يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب، إذا فلنضع خلافتنا، وأكثرها لفظية في صندوق من ذهب ولنرمي بها إلى بحر من الابتسامات،ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها، فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي، إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل ،
ويبدو أن مي كانت تخالفه في أمور تخص كتاباته الأدبية.
جبران
منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري. ولقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بكِ مخاطباً إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسراركِ. والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في أعمالي. أنت بالطبع تستغربين هذا الكلام، وأنا أستغرب حاجتي واضطراري إلى كتابته إليك. وحبذا لو كان بإمكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة، في الآونة الأخيرة قد تحقق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى، فهي أشد وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والجينية حتى والخلقية، قد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي ولا يجمعهما الحاضر وقد لا يجمعهما المستقبل، وفي هذه الرابطة يا ميّ في هذه العاطفة النفسية، في هذا التّفاهم الخفي، أحلم أغرب وأعجب من كل ما يتمايل في القلب البشري وفي هذا التفاهم يا ميّ أغنية عميقة هادئة، نسمعها في سكينة اللّيل فتنتقل بنا إلى ما وراء اللّيل، إلى ما وراء النّهار، إلى ما وراء الزّمن، إلى ما وراء الأبدية، وفي هذه العاطفة يا ميّ غصّات أليمة لا تزول ولكنها عزيزة لدينا ولو استطعنا لما أبدلناها بكل ما نعرفه ونتخيله من الملذات والأمجاد، فإن كنت قد أبنت سراً معروفاً لديك كنت من أولئك الذين قد حبتهم الحياة. وإن كنت قد أبنت أمراً خاصاً بي وحدي فلكِ أن تطعمي النار هذه الرسالة.
جبران
أُحبّ صغيرتي غير أنني لا أدري بعقلي لماذا أحبها، ولا أريد أن أدري بعقلي، يكفي أنني أحبها. يكفي أنني أحبها بروحي وقلبي، يكفي أنني أسند رأسي إلى كتفها كئيباً غريباً مستوحداً فرحاً مدهوشاً مجذوباً، يكفي أن أسير إلى جانبها نحو قمة الجبل وأن أقول لها بين الآونة والأخرى أنتِ رفيقتي، أنتِ رفيقتي.
جبران