غادة السمان_غسان كنفاني
أعرفُ أنَّ الكثيرينَ كتبوا إليكِ، وأعرفُ أنَّ الكلمات المكتوبة تُخفي عادةً حقيقة الأشياء خصوصاً إذا كانت تُعاش، وتُحسُّ وتُنزف على الصورة الكثيفة النّادرة التي عشناها في الأسبوعينِ الماضيينِ، ورغم ذلكَ، فحين أمسكتُ هذه الورقةَ لأكتبَ، كنتُ أعرفُ أنَّ شيئاً واحداً فقط أستطيعُ أن أقولَهُ وأنا أثقُ من صِدقِهِ، وعُمقهِ، وكثافتهِ، وربَّما ملاصقتهِ، التي يُخيَّل إليَّ الآن أنَّها كانت شيئاً محتوماً، وستظلّ كالأقدار التي صنعتنا، إنّني أحبُّكِ.
أنتِ تعرفينَ أنَّني رجلٌ لا أنسى، وأنا أعْرَفُ منكِ بالجحيم الذي يُطوِّق حياتي من كلِّ جانب، وبالجنة التي لا أستطيعُ أن أكرهَها، وبالحريق الذي يشتعلُ في عُروقي، وبالصّخرة التي كُتِبَ عليَّ أن أجُرَّها وتجرَّني إلى حيثُ لا يدري أحدٌ، وأنا أعْرَفُ منكِ أيضاً بأنَّها حياتي أنا، وأنَّها تتسربُ من بينِ أصابعي أنا، وبأنَّ حُبَّكِ يستحقُّ أن يعيشَ الإنسان لهُ، وهو جزيرةٌ لا يستطيعُ المنفيُّ في موج المُحيط الشّاسع أن يمرَّ بها دون أن …، ورغم ذلك فأنا أعرفُ منكِ أيضاً بأنَّني أحبُّكِ إلى حدٍّ أستطيعُ أن أغيبَ فيهِ، بالصّورة التي تشائينَ، إذا كنتِ تعتقدينَ أنَّ هذا الغياب سيجعلُكِ أكثر سعادةً، وبأنَّهُ سيغيِّر شيئاً من حقيقة الأشياء.
أرجوكِ، دعيني معكِ، دعيني أراكِ أنَّكِ تُعْنِينَ بالنّسبةِ لِي أكثر بكثير ممَّا أُعْني لَكِ، وأنا أعْرفُ، ولكن ما العمل؟ إنَّني أعْرفُ أنَّ العالَمَ ضِدَّنا معاً، ولكنَّني أعْرفُ بأنّهُ ضِدَّنا بصورةٍ متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجههِ؟ كُفّي عن تعذيبي، فلا أنا ولا أنتِ نستحقُ أن نُسحقَ على هذه الصُّورة، أمَّا أنا فقد أذلني الهروب بما فيهِ الكفاية، ولستُ أريدُ، ولا أقْبلُ الهروب بعد، سأظلُّ، ولو وُضِعَ أطلسُ الكونِ على كتفيَّ، وراءكِ ومعكِ، ولن يستطيعَ شيءٌ في العالم أن يجعلني أفقدكِ فقد فقدتُ قبلَكِ، وسأفقدُ بعدكِ كلَّ شيءٍ، إنَّني لا أستطيعُ أن أكرهَكِ ولذلكَ فأنا أطلبُ حبَّكِ، أُعطيكِ العالمَ إن أعطيتِني منهُ قبولكِ بي، فأنا أيُّتها الشّقية، أعْرف أنَّني أحبُّكِ، وأعْرف أنَّني إذا فقدتكِ فقدتُ أثمنَ ما لديَّ ، وإلى الأبدِ.
إنّني أقولُ لكِ كلَّ شيء؛ لأنَّني أفتقدُكِ، لأنّني أكثر من ذلك تعبْتُ من الوقوف بدونكِ، ورغم ذلك فقد كان يُخيَّل إليَّ ذات يومٍ أنَّكِ ستكونينَ بعيدةً حقاً حينَ تسافرينَ.
ولكنّني متأكِّدٌ من شيء واحد على الأقلِّ، هو قيمتُكِ عندي، وأنا لم أفقِدْ صوابي بكِ بعد، ولذلك فأنا الذي أعرفُ كم أنتِ أذكى وأنبل وأجمل، لقد كنتِ في بدني طوال الوقت، في شفتيَّ، في عينيَّ وفي رأسي، كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرَّائع الذي يتذكرُهُ الإنسانُ كي يعيشَ ويعودَ، إنّ لِي قدرةً لم أعرفْ مثلها في حياتي على تصوُّرِكِ ورؤيتِكِ، وحين أرى منظراً أو أسمع كلمةً وأعلِّق عليها بيني وبين نفسي، أسمعُ جوابَكِ في أُذنيَّ، كأنَّكِ واقفة إلى جواري ويدك في يدي . أحياناً أسمعُكِ تضحكينَ، وأحياناً أسمعُكِ ترفضينَ رأيي وأحياناً تسبقيني إلى التعليق، وأنظرُ إلىكِ عيون الواقفين أمامي؛ لأرى إن كانوا قد لمحوكِ معي، أتعاونُ معكِ على مواجهة كلِّ شيء، وأضعُ معكِ نصل الصّدق الجارح على رقابِهم، إنَّني أحبك أيَّتها الشّقية كما لم أعرفِ الحبَّ في حياتي، ولستُ أذكر في حياتي سعادة توازي تلكَ التي غسلتني من غبار وصدأِ ثلاثين سنة ليلة تركتُ بيروت إلى هُنا .