من رسائل كافكا إلى ميلينا:
تتوهمين، فلن تستطيعي البقاءَ إلى جانبي مدّة يومين،، أنا رخوٌ، أزحفُ على الأرض،
أنا صامتٌ طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداويّ،
هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أحياها ؟
أقضي معظمَ الوقتِ محتجزاً في غرفتي أو أطوي الأزقَّة وحدي.
هل ستصبرينَ على أن تعيشي معي بعيدةً كلياً عن والديكِ وأصدقائكِ؟ بل وعن كلّ علاقةٍ أُخرى، ما دامَ لا يمكنني مطلقاً تصورِ الحياة الجماعية بطريقةٍ مغايرة؟ لا أريدُ تعاستكِ يا “ميلينا”، أُخرجي من هذه الحلقةِ الملعونةِ التي سجنتكِ فيها، عندما أعماني الحُبّ.
ميلينا، أنتِ بالنسبةِ لي لستِ امرأة، أنتِ فتاة، فتاة لم أرى مثلها أبدًا من قبل، لستُ أظّنُ لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لكِ يدي أيتها الفتاة، تلكَ اليدُّ الملوثةُ، والمعروقة، المهتزة، المترددّة، التي تتناوبها السّخونة والبرودة،.
أتعلمينَ يا ميلينا، إنكِ عندما تذهبينَ إليهِ (يقصد زوجها) فإنك بذلكَ تخطينَ خطوةً واسعةً إلى أسفل، بالنسبةِ لمستواكِ، لكنكِ إذا خطوتِ نحويَّ فسوف تتردينَ في الهاوية، هل تدركين ذلك.
الآنَ فقط انقطعَ المطرُ الذي دامَ سقوطهُ يومين وليلة، مع أنّ انقطاعهُ قد لا يستمرُ سوى لحظة، لكنه مع ذلك حدثُ يستحقُ أن يَحتفلَ بهِ المرء، وهذا ما أفعلهُ بالكتابةِ إليك، إنني أعيشُ هنا في خيرِ حال، ولا يطيق الجّسدُ الفاني مزيدًا من العناية، وتُطلّ شرفةُ غرفتي على حديقةٍ محاطةٍ بسور، تزدهرُ فيها الشّجيرات المزّهرة، وتتعرضُ شرفةُ الغرفة لأشعةِ الشّمس، تزورني في الغرفة السّحالي، والطّيور، وأنواعٌ مختلفة من الكائنات، تزورني أزواجًا أزواجًا، إنني أرغبُ رغبةً شديدةً في أنّ تكوني هنا.
ما شكلُ تلكَ الشّقة التي كتبتِ لي منها يومَ السّبت، هل هي فسيحة وخالية؟ هل أنتِ وحيدة نهارًا وليلًا؟ لا بَُّد أن يكونَ هذا محزنًا حقًا، على الرغمِ من صغرِِ حجرتي، فإن ميلينا الحقيقية، تلكَ التي زايلتكَ صراحةً يوم السبت، توجد معي هنا، وصدقيني إنه شيء رائع جدًا، أن أكون معها. ستكون كذبة بالنسبة لي لو قلت إنني أفتقدك، إنه السحر الكامل، المؤلم، إنك توجدين هنا مثلما أنا هنا، إنَّ وجودكِ مؤكدٌ أكثرَ من وجودي، إنك تكونينَ حيثُ أكون، وجودك كوجودي، وأكثر كثيرًا من وجودي في الحقيقة.
إنني أرتعشُ فحسب، تحت وطأة الهجوم، أُعذّب نفسي إلى درجةِ الجّنون، في الحقيقة حياتي ووجودي إنما يتألفُ من هذا التهديد السُّفلي، فلو توقفَ هذا التهديد لتوقفَ أيضًا وجودي، إنه طريقتي في المشاركة في الحياة، فلو توقف هذا التهديد، سأهجرُ الحياةَ بمثلِ سهولةِ وطبيعية إغلاق المرء لعينيه.
يجب أن تتدبري أنت أيضًا يا ميلينا، نوعَ الشّخص الذي خَطا نحوكِ، إنَ رحلةَ الثّمانية والثّلاثين عامًا تستلقي خلفه، ولما كنتُ يهوديًا فإن الرحلة في حقيقتها أطول بالفعل من ذلك، فلو أنني عند منعطفٍ عارضٍ تبدّى لي في طريقي، قد رأيتك! أنتِ التي لم أتوقع أن أراكِ مطلقًا، وأن تجيء رؤيتي لك فوق ذلك متأخرةً إلى هذا الحد، عندئذ لا يمكنني يا ميلينا أن أصبح مملوكاً لكِ، و لا أن يهتفَ لكِ شيءٌ في داخلي، و لا أن أقولَ آلافَ الأشياءِ الحمقاء التي لا أجدُ لدي شيئًا منها، وأحذفُ الحماقاتِ الأخرى التي أُحسّ أن لدي منها ما يزيد عن حاجتي.
إنني أعيشُ في قذارتي، فهذا هو ما يشغلني، لكن أن أُجرجرك إلى داخلها أيضًا، فهذا شيءٌ مختلفٌ تمامًا، إن الشيء المزعج هو شيءٌ بعيد، بالأحرى حيث أنني من خلالك أصبحُ أكثرَ وعيًا بقذارتي على نحو زائد، ومن خلال وعيي يصبحُ الخلاص أكثر كثيراً في صعوبته.
رسائل فرانز كافكا الى الوالد:
أبي الحبيب،، لقد سألتني مؤخراً لماذا أزعمُ أنني أخافُ منك؟ وكالعادة لم أدرِ بماذا أجيبكَ، تارةً بسببِ الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارةً لأنَ الكثير من التّفاصيلِ متعلقةٌ بحيثياتِ ذلكَ الخوف، بحيثُ لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديثِ معك ولو جزئياً، وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبكَ خطياً، فإن كلّ ما أقومُ بهِ لن يكونَ سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوفَ وتبعاتهِ يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي.
الأمر بالنسبة لكَ كانَ دائماً في غايةِ البساطة، على الأقل وأنتَ تتحدثُ عنه أمامي وأمام الكثيرين بلا استثناء، كنتُ إلى حدٍّ ما أتصور الأمر هكذا: لقد ظلّلتَ تكدحُ طوال حياتك، مضحياً بكلّ شيءٍ في سبيلِ أولادك، وأولهم أنا، وأنا الذي رحتُ أتمطى في “بحبوحة من العيش”، متروكاً لي مطلق الحرية في تعلم ما أُريد، أنا الذي لم يكن لديّ من سببٍ واحدٍ للقلق على أمر زادي وشربي، بل ولا على أي شيء،، ومع كلّ هذا لم تحصل مني حتّى على كلمة أمتنان، وأنت أدرى كيف يكون أمتنان الأولاد،،! إنما على الأقل كنوعٍ من الملاطفة، من الودّ، أنني بدلاً من ذلك رحتُ أنأى بعيداً عنك إلى الغرفة والكتب وأصدقاءَ معتوهين، وإلى أفكار غريبة الأطوار، لم أصارحكَ يوماً بحديث، لم أتعبد مرةً في المعبد، لم أزُركَ مطلقاً في ” تشيكية”، بل لم يكن لدي حتى حِسّ الأنتماء للأسرة، لم أكترث يوماً لأمركَ، ولا لشأنٍ من شؤونك، ألقيتُ بكلّ ثقلِ المّتجر على كاهلك وتركتكَ وحدكَ، رحتُ أقف في صفٍّ “أوتيللا” وعنادِها، بينما لم أكن أُحركُ ساكناً من أجلك أنت، لم آتكَ مرة بتذكرةِ مسرح، بينما أفعلُ كل شيءٍ في سبيلِ الغرباء.
لم أكن سوى طفل شديد الخوف، رغم أني كنت لا شك عنيداً أيضاً، كما هو حال الأطفال، وكانت أمي تدللّني بكل تأكيد، إنما لا يمكنُ أن أصدق أني أنا بالذات كنتُ صعبَ الانقياد، ولا يمكن أن أصدق أن كلمةَ حنانٍ، أو لمسةٍ وديعةٍ من يد، أو نظرةَ عطفٍ، لم يكن بوسعها أن تنالَ مني كل ما يريده المرء، كما أنكَ في الأساس إنسانٌ مليء بالطّيبة، ليّن الجّانب فأنا هنا أتحدّث فقط عن ظاهرةٍ كنتَ فيها تترك أثركَ عليّ، لكن ليسَ لكلّ طفل من الجَّلَد والجّسارة ما يُمكّنه من البحث طويلاً كي يحظى بطيبتك، كما أنهُ لم يكن بوسعكَ أن تتعاملَ مع طفلٍ إلا وفقَ جبلّتك التي نشأتَ عليها، أي؛ بالقسوة، والصراخ، والحدّة، وكانَ يبدو لكَ والحالة هذه أنها مناسبةٌ للغاية، إذ إنكَ أردتَ أن تُنشئ شاباً قوياً شجاعاً.
كما أنه كان لك أيضاً ابتسامة من نوع خاص رائع، ابتسامة هادئة، طيِّبة، وديعة، ابتسامة جميلة، لكنها كانت نادرة جداً، كان لها أن تكون هي القاعدة، لا الأستثناء، ليس بوسعي أن أتذكر أني حظيتُ بها في طفولتي، إنما لعلَّ شيئاً من هذا كان يحدث، ولماذا تُرى كان سيتعينُ عليكَ أن تحرمني منها، وأنا بالنسبةِ لكَ ما أزالُ بريئاً، بل وتعدُّني أملكَ الكبير،، بالمناسبة، ما كان لإنطباعات صادقة كهذه أن تستحيل في المدى الطويل إلى شيء آخر سوى إحساسي المتزايد بالذّنب، وسوى أن العالم سيغدو أكثر غموضاً بالنسبة لي.
ليسَ لكَ الآن سوى أن تتحفني ببعض الإجابات، فيما يتعلق بمحاولاتِ الزّواج، ولقد فعلتَها أيضاً، لم يكن بمقدوركَ إبداءُ الكثير من الأحترامِ لقراري، عندما قُمتُ بفسخِ خطبتي للمرة الثانية، واستئنافها للمرة الثانية، ولا عندما كنتُ قد جررّتك دونَ جدوى إلى برلين، أنتَ وأُمي بخصوصِ الخطبة، وما شابه، كلّ شيءٍ كانَ على ما يُرام، لكن كيفَ نَحت الأمور ذلك المنحى؟