البرك والنوافير في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


تميز عهد بني العباس بالتطور نتيجة أسباب من أهمها دخول العجم إلى البلاد بسبب الفتوحات واندماجهم مع المجتمع، فلقد أخذ أهل المشرق من العجم العديد من الثقافات التي ساهمت بالتطور في كافة المجالات وخاصة العمران والبناء، فتعلموا منهم أسلوبهم في العمران والزخرفة وزينوا فيه قصورهم وكذلك أدخلوا الماء إلى هذه القصور وعملوا منها أجمل النوافير والبرك.

البرك والنوافير في العصر العباسي

اهتم الخلفاء في بناء القصور وزخرفتها بشكل كبير وكانت القصور بمثابة مرآه تعكس حياة الترف والرفاهية التي تمتع بها الخلفاء، ومن مظاهر الترف في هذه القصور هي النوافير المزخرفة فقد قاموا على إدخال مياه الأنهار إلى داخل قصورهم وعملوا على إنشاء النوافير المحاطة بالتماثيل والزخارف.

كذلك البرك المتنوعة وكانت من أساسيات الجمال في هذه القصور ولا يمكن الاستغناء عنها كما تأثر الشعراء بهذه المناظر الخلابة التي أثرت قريحتِهم ودفعتهم إلى وصف هذه النوافير والبرك، مثال على ما كتبه علي بن الجهم واصفاً نافورة في غاية الجمال متواجدة في قصر المتوكل ويقول:

وقُبةُ ملكٍ كأنَّ النّجومَ 

تُفضي إليها بأسرارها

لها شُرُفات كأنّ الربيع

كساها الرياض بأنوارها 

نظمت الفسيفس نظم الحليَّ

لِعَونِ النساء وأبكارِها

فهُنّ كمصطحبات برزن

بفصح النصارى وإفطارها

ونافورةٌ ثأرها في السماء

فليست تُقصّرُ عن ثأرها

وكان للبرك التي صممت داخل القصور أثرٌ في نفوس الشعراء ودفعهم جمالها إلى نقش أروع اللوحات لها في أبياتهم، ونرى علي بن الجهم وقد فتنة جمال بركة في قصر الهاروني التي كان مشهود لها بالروعة والجمال فنظم بها:

أَنشَأتَها بِركَةً مُبارَكَةً

فَبارَكَ اللَهُ في عَواقِبِها

حُفَّت بِما تَشتَهي النُفوسُ لَها

وَحارَتِ الناسُ في عَجائِبِها

لَم يَخلُقِ اللَهُ مِثلَها وَطَناً

في مَشرِقِ الأَرضِ أَو مَغارِبِها

كَأَنَّها وَالرِياضُ مُحدِقَةٌ

بِها عَروسٌ تُجلى لِخاطِبِها

مِن أَيِّ أَقطارِها أَتَيتَ رَأَي

تَ الحُسنَ حَيرانَ في جَوانِبِها

لِلمَوجِ فيها تَلاطُمٌ عَجَبٌ

وَالجَزرُ وَالمَدُّ في مَشارِبِها

قَدَّرَها اللَهُ لِلإِمامِ وَما

قَدَّرَ فيها عَيباً لِعائِبِها

كذلك كان شأن البحتري الذي فُتن بكل جميل وقام على وصفه بأروع الأبيات ولم يتوقف عند وصفه للبيئة، إنما قام على وصف القصور والجَمال العمراني الذي فيه وخصوصاً البرك ومن قوله في بركة المتوكل:

يامَن رَأى البِركَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها

وَالآنِساتِ إِذا لاحَت مَغانيها

بِحَسبِها أَنَّها مِن فَضلِ رُتبَتِها

تُعَدُّ واحِدَةً وَالبَحرُ ثانيها

ما بالُ دِجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها

في الحُسنِ طَوراً وَأَطواراً تُباهيها

أَما رَأَت كالِئَ الإِسلامِ يَكلَؤها

مِن أَن تُعابَ وَباني المَجدِ يَبنيها

كَأَنَّ جِنَّ سُلَيمانَ الَّذينَ وَلوا

إِبداعَها فَأَدَقّوا في مَعانيها

فَلَو تَمُرُّ بِها بَلقيسُ عَن عُرُضٍ

قالَت هِيَ الصَرحُ تَمثيلاً وَتَشبيها

تَنحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً

كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها

ومن أجمل الوصوف للبرك نتوقف عند وصف ابن المعتز لبِركة الحبش والخليج:

كَأَنَّ البِركَةَ الغَنّاءَ لَمّا

غَدَت بِالماءِ مُفعَمَةً تَموجُ

وَقَد لاحَ الدُجى مَرآةَ قَينٍ

قَد اِنصَقَلَت وَمَقبِضُها الخَليجُ

وكذلك وصفه لبركةٍ أخرى قائلاً:

وَبِـركَـةٍ تَـزهـو بِنَيلوفَرٍ

أَلوانُهُ بِالحُسنِ مَنعوتَه

نَهـارُهُ يَـنـظُـرُ مِن مُقلَةٍ

شاخِصَةِ الأَجفانِ مَبهوتَه

كَــأَنَّمــا كُـلُّ قَـضـيـبٍ لَهُ

يَحمِلُ في أَعلاهُ ياقوتَه

وبخصوص الصنوبري فقد عرف بهيامه وتعلقه بالبيئة فأكثر من وصف مواطن الجمال فوصف الرياض والزهور، وكذلك القصور وبركها الرائعة، ومثال على أبياته في البرك ما قاله في البركة الحسناء:

والبركة الحسناء فيما بيننا 

ملأى تجُوشن تارة وتُدرَّعُ

رأيت الحضور لعرسها فتصنعت

إن العروس لعرسها تتصنَّعُ

والصنوبري لا يقل عن البحتري إتقاناً وبراعةٍ في الحديث عن البرك فنراه يصف بركة التل قائلاً:

ومقلي بركة التل وسبات رحاها

بركة تربتها الكافور والدر حصاها

كم غزا بي طربي حيتانها لمَّا غزاها

إذ تلا مُطَّبخُ الحيتان منها مُشتواها

بمروج اللَّهو ألقت عِير لَذّاتي عصاها

ويظهر شدة تعلقه وهيامه بالبرك حين قال:

مجمرةٌ طاف بها الغلمانُ

أبدع في صنعتها الزمانُ

كأنها فيما حكى العيانُ

فــوارةٌ ومــا هــو دخــان

في بركةٍ حصباؤها نيرانُ

إذا تـبـدتْ حَزِنَ الريحان

وَسُـرَّتِ الجـيوبُ والأردان

خصائص شعر وصف البرك والنوافير في الشعر العباسي

1- الاتقان والدقة في الوصف.

2- التنحي عن الغموض والغرابة.

3- الدقة في المفردات واستخدام المفردات الأعجمية في وصف النوافير والبرك.

4- الإسهاب في استعمال الصور والتشبيهات الجديدة.

5- شيوع القصائد ذات القوافي الخفيفة.

6- الإكثار من المحسنات التي تُضفي لون وجمال على المقطوعات. 

وفي النهاية نستنتج إن الحضارة والتقدم التي شهدتها البلاد في العهد العباسي كان له أثر كبير في نفوس الشعراء، ولمَّا كان الشاعر يتأثر بكل ما حوله فلقد تأثر بمناظر الجمال جراء التقدم العمراني وخصوصًا في قصور الحكام، مما شحذ قرائحهم ودفعهم إلى تصوير الجمال ومن ذلك البرك والنوافير.

المصدر: في الأدب العباسي تأليف محمد مهدي البصير 2020تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي تأليف السباعي بيومي 2020أدب السياسة في العصر الأموي 2020شعر من المهجر تأليف محمد قرة علي 2018الأدب في العصر الجاهلي 2014


شارك المقالة: