التسول في الشعر

اقرأ في هذا المقال


لقد تعلق الكلام المنظوم بالحكم والسيادة منذ القدم حيث كان رواده يتوجهون بمقطوعاتهم إلى الحكام بهدف كسب رضاهم ونيل العطايا، كان الخلفاء يحثون الشعراء من أجل نظم الشعر الذي يعدُّ وسيلة ترويجية وتثبيت لسيادتهم وأيضًا لمعرفتهم بأهمية الكلام المنظوم، فهو بمثابة موسوعة تاريخية ينقل للأجيال أخبار أهل المشرق القدامى فلهذا اهتموا به وشجعوا عليه، ومن هنا ظهرت صفة التسول بالكلام المنظوم وفي هذا المقال سنوضحه وندرج أمثلة عليه. 

ظاهرة التسول بالشعر

نشأة ظاهرة التسول بالكلام المنظوم منذ القدم وعُرف به الكثير من أهل الشعر حيث يرجع سبب ذلك إلى سوء الأحوال المادية وضنك العيش، إذ كان أهل المشرق يعيشون في المجتمعات على شكل طبقات طبقة الأثرياء المنعمين بحياة الرفاهية وطبقة الفقراء الكادحين الذين يكدون من أجل لقمة العيش.

كذلك حال الشعراء فكان الكثير منهم لا يجدون قوت يومهم فكانوا يلجؤون إلى التسول بنتاجهم من أجل التكسب بالرغم من تأثر مقطوعاتهم، فقد كان كلام متصنع يخلو من الصدق والمشاعر فهو لم يخرج من عاطفة وإنما تصنَّع من قائله في نظمه.

كما كان للشعر في ذلك الوقت أهمية كبيرة فقد عرف ولاة الأمر قيمته فهو بمثابة وسيلة إعلامية يصل إلى جميع البشر واستفادوا من ذلك حيث جمعوا في مجالسهم أبرز أهل الشعر، حيث قدموا لهم العطايا من أجل مدحهم وذكر أعمالهم الجيدة وكل ذلك يثبت دعائم سلطتهم ويقوي علاقتهم بالرعية.

اتخذ العديد من رواد الكلام المنظوم المدح طريقة ناجحة للكسب ونيل الرضا والوصول إلى العز والجاه وقدموا في سبيل ذلك كل ما يقدروا عليه من كلام منظوم، وتوسلوا إلى الممدوحين وطلبوا المال والهبات كما كان أغلب ولاة الأمر في مختلف العصور مولعين بسماع مدح الشعر لهم وكانوا يجزلون العطايا من أجل ذلك.

 كان البعض منهم يرفض ذلك واعتمدوا على أعمالهم الخيرة في تثبيت حكمهم وسلطتهم ومثال عليهم عمر بن عبد العزيز الذي لم يفتح المجال لأهل الشعر ولم يكن لهم تواجد في مجالسه، وكان أبو أرطأة يتوسط لأهل الشعر ليدخلوا مجلسه وكان حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يسمع مدحهم له، فوافق وسمح لهم بالدخول وسأل أرطأة من يريد الدخول فردَّ: عمر بن أبي ربيعة، أجابه عمر بن عبد العزيز:

” لا قرب الله قرابته ولا حيا الله وجهه، أليس هو القائل:

يا ليت سلمى في القبور ضجيعتي

هنالك أو في جنّة أو جهنم

والله لا يدخل عليَّ أبداً، فمن في الباب غيره؟”

ردَّ أرطأة أن جميل بالباب ويريد أن يدخل ويسمعك كلامه فرفض عمر وسأل أليس هو من قال:

أظلُّ نهاري لا أراها وتلتقي

مع الليل روحي في المنام وروحها

فلم يسمح له بالدخول بسبب الكلام وسأل إذا يوجد غيره في الباب فرد أرطأة بأن كثير عزة موجود فلم يسمح له بالدخول بسبب قوله:

رهبان مدين والذين عهدتهم

يبكون من حذر العذاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت كلامهم

خرُّوا لعزَّة رُكعًا وسجودا

كما رفض عمر دخول الأحوص إلى مجلسه وسماع أبياته بسبب قوله:

الله بيني وبين سيدها

يفرّ عني وبها أتبعه

كذلك رفض مجالسة الأخطل وحلف أن لا يتواجد بمكان موجود فيه الأخطل بسبب قوله:

ولست بصائم رمضان طوعًا

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بقائم أبدًا أنادي 

كمثل العير حي على الفلاح

وفي النهاية وبعد نقاش طويل بينه وبين أرطأة سمح لجرير بالدخول وسماع أشعاره فقال جرير:

إِن الذي بَعَثَ النبِي مُحمداً

جعل الخِلافة في الإِمام العادل

وسع الخلائق عدلُه ووفاؤه

حتى ارعوى وأقام ميل المائل

إني لأرجو منك خيرًا عاجلاً

والنفس مولعة بحبّ العاجل

ولم يعجب عمر ما ألقاه جرير على مسامعه وطلب منه مخافة الله ولا ينطق إلا الصدق وما هو حق فقال جرير:

كَم بِالمَواسِمِ مِن شَعثاءَ أَرمَلَةٍ

وَمِن يَتيمٍ ضَعيفِ الصَوتِ وَالنَظَرِ

 يَدعوكَ دَعوَةَ مَلهوفٍ كَأَنَّ بِهِ

خَبلاً مِنَ الجِنِّ أَو خَبلاً مِنَ النَشَرِ

 مِمَّن يَعُدُّكَ تَكفي فَقدَ والِدِهِ

كَالفَرخِ في العُشِّ لَم يَدرُج وَلَم يَطِرِ

بعد سماع عمر لذلك الشعر أمر له بمئة درهم لا يملك غيرها وأمر ألا يعود ثانية لمجلسه، كما نرى أن أغلب الشعراء قد ابتعدوا عن التسول بأشعارهم ومثال عليهم علي بن الجهم حيث قال بذلك:

وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ

وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري

وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن

لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ

وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها

وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري

وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ

دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ

وأهل الشعر يعتبرون إنتاجهم من المدح وكذلك الهجاء سلعة تُباع وتشترى والدليل على ذلك شراء عمر أعراض الناس من الحُطيئة كي لا ينطقُ به شعراً، وأهل المشرق اشتهروا بالتجارة وأهمها تجارة الكلام المنظوم الذي أنشأوا له الأسواق كسوق عكاظ.

كما ذكر أن النابغة كان حكمًا بين الشعراء ويختار الأفضل منهم للمشترين وذات مرة حكم للخنساء وهذا يثبت أنهم مهتمون بكلام المرأة وكان لها شأن وحضور في تلك الأسواق، وكانت الجواري اللواتي برعن في نظم الكلام تباع في تلك الأسواق وكان سعرها باهض بالمقارنة مع الجواري الأخريات.

كما كانوا في قبائلهم يحتفلون بولادة فارس وكذلك شاعر، فالفارس يذود عن قبيلته ويحميها من الأعداء بسلاحه، والشاعر يتصدى لأعداء قبيلته بلسانه وكلامه المنظوم.

أشهر الشعراء الذين تسولوا في شعرهم

1- المتنبي: حكايته معروفة مع حاكم مصر الذي منع عنه العطايا لجشَعه وكان المتنبي يطلب أن يكون أميراً على أحد الولايات وقيل أنه قتل بسبب جشَعه وقصائده التي مدح بها كافور ومن أبياته:

كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا

وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا

تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن ت

صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا

2- الفرزدق: أكثر من الثناء لزين العابدين وكان مرافقاً له يسهب في مدحه لكسب رضاه ونيل العطايا منه ومن أشهر ما قيل في مدحه قاصداً العطايا والهبات:

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ

هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ

بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

3- جرير: كان لا يتوانى عن مدح ولاة الأمر بغرض التكسب ولا يخجل في طلب العطاء منهم، وقوله في مدح عبد الملك:

أَلَستُم خَيرَ مَن رَكِبَ المَطايا

 وَأَندى العالَمينَ بُطونَ راحِ

وَقَومٍ قَد سَمَوتَ لَهُم فَدانوا 

بِدُهمٍ في مُلَملَمَةٍ رَداحِ

 أَبَحتَ حِمى تِهامَةَ بَعدَ نَجدٍ 

وَما شَيءٌ حَمَيتَ بِمُستَباحِ

وكذلك مدح الحجاج في الكثير من الأبيات ليكسب رضاه وينال الهبات والعطايا ومن أبياته فيه:

من سد مطَّلَع النفاق عليهم

أم من يصول كصُولة الحجاج

أم من يغار على النساء حفيظة

إذ لا يثقن بغيرة الأزواج

إن ابن يوسف، فاعلموا وتيقنوا

ماضي البصيرة، واضحُ المنهاج

ماضٍ على الغمرات يمضي همه

وفي النهاية نستنتج إن الكلام المنظوم له علاقة قوية في الحكم والسلطة وكان ولاة الأمر يحثون عليه بكثرة، واستغل الأدباء ذلك واتجهوا بشعرهم إلى التسول وكسب العطايا والهبات من الممدوحين ومثال عليهم الفرزدق والمتنبي وغيرهم الكثير.


شارك المقالة: