الحكمة والبصيرة في الدعوة

اقرأ في هذا المقال



الحكمة والبصيرة في الدعوة :

الاتباع والإصلاح لا يعتبر حماساً فقط، بل هو فقه بالشيء قبل أن يكونَ ذلك عملاً وعزيمة عنده، ويخسرُ كذلك بركة الهدي النبوي الشريف من اكتفى بظاهر العمل، وغفل عمّا يتضمنه ذلك العمل من شروطٍ عديدةٍ، فيها زمان ومكان وإمكان، وطريقة وأخلاق، فإذا اجتمعت جميعاً كانت من الحكمة التي تشهد لرسول الله بالإمامة والسيادة.

تَعجَبُ ممّن يتعامل مع الاتِّباع والتشبُّه بالهدي النبوي بسطحية بالغة تكتفي بمراعاة ظاهر العمل، ولو فارق ما يتضمنه ذلك العمل حكمة في مراعاة الوقت والمكان والطريقة والأخلاق، وما يترتب عليه من مصلحةٍ تربو على المفسدة، وبالمثال يتضح المقال، فقد أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع أبيه ( إبراهيم عليه السلام ) كما قال تعالى عنه: ﴿إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ كَانَ أُمَّةࣰ قَانِتࣰا لِّلَّهِ حَنِیفࣰا وَلَمۡ یَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (١٢٠) شَاكِرࣰا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ (١٢١) وَءَاتَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ (١٢٢) ثُمَّ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (١٢٣)﴾ ولا يخالف إبراهيم عليه السلام إلّا من سفه نفسه، قال تعالى: ﴿وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ [البقرة ١٣٠].

ومن أعظم مواقف إبراهيم مع التوحيد ومنابذة الشرك، قصة هدمه للأصنام، فقد جعلها جُذاذاً- حطاماً – في قصة عجيبة خلّدها القرآن، وتحمَّل ذلك شيئاً عظيماً، حيث أجَّجوا نارهم العظيمة، وهو يراها وينتظر مصيره، ثابتاً صابراً مُحتسباً، ورموه فيها، لولا أنّ الله سلَّم وقال له: ﴿قُلۡنَا یَـٰنَارُ كُونِی بَرۡدࣰا وَسَلَـٰمًا عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ﴾ [الأنبياء ٦٩].

لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصة وهو يدعو للتوحيد في مكةَ، والأصنامُ تُحيط ببيت الله الحرام، الذي رفع قواعده ( إمام الحنفاء )، والذي أُلقي به في حُمَم النار؛ محاربةً للأصنام وأهلها.

فلماذا لم يُبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهدمها؟! أليس الاتباع والتشبه بإبراهيم عليه السلام يقتضي ذلك؟!كل هذه الأسئلة تعصف في ذهن وعقل الذي يرى الاتباع عملاً وعزيمة، وينسى أنّه قبل ذلك فقةٌ وبصيرة.

النبي مكثَ في مكة ثلاث عشرة سنة ولم يهدم الأصنام، ثم عاد لمكة مُعتمراً، وطاف بالبيت العتيق، والأصنام حوله تُلوَّث المسجد الحرام بالشرك دون أن يهدم منها شيئاً، حتى إذا فتح مكة، جاء ( الوقت) الأنسب لهدمها على الأرض بعد أن هدمها في القلوب، وبعد ةأن جاءت القوة التي تحمي التوحيد، لماذا فعل ذلك؟؟ لأنّ الإصلاح والدعوة والاتباع إذا خلت من الحكمة ومراعاة الزمان والمكان والإمكان لم يكن لها حظٌ من تلك الأسماء الشريفة إلّا النية، والنية الطيبة وحدها لا تُقيم حقاً ولا تهدم باطلاً.


شارك المقالة: